بناء السيادة

بناء السيادة

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٨ يناير ٢٠١٩

ألا تجزمون معي أن العالم الأول أو عالم الشمال لن يسمح للعالم الثالث أو النامي بالوصول إلى أهدافه من دون مقاومة مشاريعه المتجسدة في الهيمنة واستلاب السيادة وإخضاعه لتبعيته بفكر علمي وسياسي مستقل وسيادي؟ وهل دققنا في سياساته التي تلونت بالبهرجة؟ أي إن الأسلوب الاستعماري التقليدي القديم لم يعد مباشراً بل متسلل.

هل فكرنا كيف جرى تقسيم العالم إلى شمال وجنوب ومن أجل ماذا؟ هل تغير العقل الأمريكي منذ تأسيس الولايات المتحدة نهايات القرن السابع عشر عما هو عليه في القرن العشرين؟ لذلك اتجهتُ لفرد عنوان حساس أجده يحتاج إلى الاستقلال الفكري الذي لا ينفصل عن الواقع؛ بل ينخرط في أحداثه ومجرياته، ولا يكفي أن نقرأه فقط؛ بل أن ننغمس بين تفاصيله، ومنه يظهر أن لا نزاع حول الوصول إلى الاستقلال الفكري السوري، والأمر الذي نحتاجه نحن السوريين هو معرفة مزايا هذا الفكر الدقيق والعميق بحكم تراكمه التاريخي الذي يدعونا لمعرفة ذاتنا، فكيف بنا نوضح لحاضرنا مهامه الموكلة إليه؟ كيف بنا نخرجه من اهتزازاته الزمنية التي تُفرض عليه أو تخترقه إلى الاستقرار؟

هذا يأخذنا إلى فهم التكوين الفكري ونظم بنائه، فهل نحن دولة أنشأتها الظروف، ولم ينشئها أهلها المالكون لأرضها، أم إننا حقيقة آبدة مستمرة؟ فإذا لم يكن هناك أرض نقرُّ أنه لا استقرار يكون على تضاد مع النظام، مؤكد أنه على تضاد مع الوجود، والوجود مرتبط بالنظام والانتظام، فلا وجود بلا نظام، فالكون الكلي الذي نحيا جزءاً صغيراً من وجوده لا يعرف إلا النظام، والإنسان هذا المخلوق وحده من يعبث فيه من خلال صناعته للفوضى والرفض والتمرد والقبول والطاعة والقيادة، وقوانين الحياة فرضت على جميع المخلوقات التي آمنت بالتوازن البيئي، ومن ثم استقبالها للخدمات من الحيوان والجماد غذاء ومواد أولية وترفيهية، وجميعها توافرت لخدمته، حتى امتلك السلاح الذي جسد به قوته وإرادته أن يقارع بني جنسه.

هل يقدر أحد ما أن يواجه الحياة والآخر بيد خالية وعقل مجمّد؟ هل يكفي أن يرد أحدنا على أحد كي تنجز الأعمال،  وكيف بنا نقارب بين هذا وذاك؟ هل يدرك الناس قيم الحياة كي يعرف كل واحد منهم موقعه؟ كيف بنا نعزز الفكرة؟ ألا نبحث في وجودها أصلاً؟ فإذا عرفنا ووثقنا أن سورية قائمة تاريخياً وعرفنا وجودها وأصولها وتمكنا من ذلك، نقدر بعد ذلك أن نتجه إلى تعزيز وجودها وبناء استقلال فكري يكون خاصتها، وليكن بعد ذلك انسياباً وتمازجاً بين مكنونها والمتفاعل معها أو المتفاعلة معه.

من أجل ماذا نكافح، وما أسس كفاح الشعوب؟ بماذا نقيس حياة الأفراد، ولأجل ماذا يتم تكوين هيكلية لإدارة الشعوب وإنشاء الجيوش وصوغ القوانين المتداخلة بين المادي واللامادي والحسم مع الحزم ومساحات أبواب الاجتهاد ناهيكم عن التشريع وتوافر عناصر حفظ الأمن والنظام لديها؟

من المسؤول عن تعميم الفوضى الفكرية التي تلهي الناس بسياسة الكلام والأحلام التي لا يطولها الفكر، ولا حتى اليد؟ هل نحن شعب ابتلي بأمراض القيل والقال، ولم نقدر أن نجد له دواء، لأننا تائهون بين المذاهب والطوائف والأديان والأحزاب والسياسة والاقتصاد، ومازلنا نبحث لمن ننتمي، ولم نقدر على إيجاد الدواء الموجود الذي هو بين أيادينا، وأشير إليه بأنه العمل الإيجابي؟ ويجيبني الكثرة أن جميعنا يعمل، وأحاور قائلاً: وهل أجدنا العمل، وهل أبدعنا فيه؟ وهذا بعينه ما يحتاجه الفكر لكي يظهر تمايزه؛ أي استقلاله عن التقليد أو التبعية، فالقياس المظهري أوجد له النسب والدرجات، أما القياس الحقيقي فيكمن في الجوهر الداخلي ومدى فاعليته وبه وحده تربط الأشياء إلى بعضها.

دعونا نتجول في بيداء التاريخ، فلابدَّ من وجود واحات وارفة الظلال تمنحنا فرصاً للتأمل، وننطلق بعد أن شاقتنا الظروف، وراكمت علينا التهم والخطوب، ألا نستفيق؟ إن لم يكن من أجلنا، فمن أجل الأجيال الحاضرة والقادمة أمامنا أو بعد رحيلنا، لنؤمن أن الصعاب تمنح القوى للإنسان، ومن دونها كان الاستسهال لكل شيء، وهذا بعينه الذي يؤدي إلى الهاوية، فما معنى الحياة من دون آلام؟ أوَلم نكن ملائكة من دونها؟ وحينها ما حاجتنا للإله؟ فالإله خالق، والقائد موجه، والرئيس مدير، والعامل منتج، والمسؤول مسؤول عن همٍّ يختص به يكون من هموم وطن.

إن أي تطوير للسياسة وبشكل خاص تحويلها إلى سياسة استقلالية وسيادية مباشرة يجري التعامل معها على أنها خطر قادم على قوى عالم الشمال، وتبدأ إحاطتها بالمخاطر، ومؤكد أن أي سياسة لا ترافقها المخاطر تكون سياسة تابعة وخانعة وخاضعة، فالغرب برمته مع الكيان الإسرائيلي هما أكبر خطر على بناء سيادي يعمل بسياسة مستقلة وفكر بنائي متحرر من القيود، وسورية التي وصلت إلى تصلب حضورها، وبنت مقاومتها الذاتية لكل أشكال التخلف والتبعية إلى أن أصبحت قادرة على هزم أعدائها، فقد أثار هذا ضغائنهم، وحفّزهم على العدوان عليها، وصحيح أنهم اجتهدوا كثيراً، وفتحوا الثغرات، وأحدثوا بعضاً من المفاجآت، إلا أن المنظومة الفكرية الاستقلالية استطاعت أن تتعامل مع أسوأ الظروف، ورويداً رويداً قدرت على سد الثغرات وردم الهوات، وإن كان ولايزال هناك الكثير من العمل الذي يسعى إلى ما يحمله الفكر السوري للوصول إليه، لأن فكر العداوة مازال يعمل على العدوان، على الرغم من تفكيك الكثير من حلقاته وضربها في العمق.

نظرية الغرب بزعامة أمريكا تقوم على ضرورة تبعية الدول العربية والإسلامية لهم، ولا تقبل بأي استقلال أو سيادة على قرار أو مواد أولية ضمن هذه الدول، وهذا حاصل باستثناء ندرة الندرة من هذه الدول، دققوا معي تروا أن ليس هناك من سياسة أوروبية أو أمريكية تسمح باستقلال أو سيادة لدولنا، لذلك وجدنا أن السوريين - رغم كل محاولات تشويه حضورهم العربي والعالمي والضغط باتجاه تفريق أبعادهم المتحدة؛ الوطني، الديني، العروبي والقومي، التي وصلت إلى ذروة اندماجها عبر خمسين عاماً من البناء، واكتشافهم مبكراً لأفكار العدوان عليهم ونجاحاتهم المهمة في التصدي لها- نجدهم يصرون على معنى الاستقلال، ويتمسكون بالسيادة جوهراً ومظهراً متحملين صعاب قرارهم، مُعلين شأنه، مؤمنين بعدم التدخل بشؤون الآخر، جوهرهم العروبة، يفرقون بين التعايش القسري مع بعض الدول العالمية من باب المصالح ومقتضياتها، والعيش الإيجابي مع بعضها الآخر طامحين للوحدة المحققة فيما بينهم، ومن ثم تعميمها بحكم حضورهم العربي راضين بالتضامن معهم، الذي نجح ولم ينجح، أو مع الصديق الذي يعوض الشقيق، ولو في حدّه الأدنى في الرخاء، أو حتى في ظروف الزمن الصعب.

مازالت المخاطر مستمرة على سورية، وأجزم أنه قدرها أن تتحمل المخاطر، ومازالت الضغوط أيضاً مستمرة، وإن تحولت من الشكل الناري إلى البارد، وهذا بحدّ ذاته يتطلب منا نحن السوريين وعياً استثنائياً ونضجاً علمياً، والسبب الدائم إصرارنا على إعلاء شأننا السيادي وتمسكنا بالعروبة والقومية، فهذه هي سياستنا، سياسة الأصالة والثقة والوفاء لتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، لأنها سياسة تحمل السلامة والخلود والبقاء، فكم قُدّم من عروض للتخلي عن هذه السياسة اللامعة الجامعة، وفضّل السوريون تحمّل الصعاب، وأن يكونوا مقاومين ومدافعين، ليس من أجلهم فقط؛ بل من أجل الأمة العربية برمتها، ومن أجل قضاياها العادلة، وأهمها قضية فلسطين وشعبها، هكذا كنا ومازلنا، وسنبقى أصحاب سيادة واستقلال.

د. نبيل طعمة