تحديات إستراتيجية

تحديات إستراتيجية

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٣ نوفمبر ٢٠١٨

الحرية الوطنية والانفتاح الخلاق والوظائف الرسمية تجعل من الموظف يعمل بعقلية تجارية لا بعقلية التاجر، وعدم بقاء اعتقاده أن وظيفته تحميه مما يجنيه من خلال مروره من ثقوب القوانين التي تعلمه الانفلات من عقدة انشغاله بحماية كرسيه بدلاً من حمايته لوطنه ولمواطنه، والعكس أيضاً يجب أن يتعلمه المواطن؛ أي المسؤولية تجاه الوطن، وخروج الجميع من حالات الجدل السياسي العقيم، إلى فهم مقتضيات السياسة التي تؤدي إلى إدراك الواقع الاقتصادي والاجتماعي وتحديد موقعه من جوهره إلى محيطه أولاً، ومن العالم الذي يحيط بمحيطه ثانياً.

هذه البداية البسيطة ترينا حجم تخلف الأغلبية من السواد الأعظم من البشرية، وافتقارها لأبسط قواعد التعاملات الاقتصادية، ونجدها متخبطة في إدارة اقتصاد أسرها، فكيف بها تعمل لاقتصادات أوطانها، وذهنيات أبنائها تائهة بين السعي للاكتفاء الفردي المطلوب الوصول إليه، وطموح الإبداع الذي يبدأ بعد ذلك كي تصل إلى الإنتاج الإبداعي، لذلك نجدها شعوباً غير سعيدة ومضطربة، وجودها هشيم قابل للاشتعال بأي لحظة، تختبئ كما الأفيال خلف الفئران، لأن حجومها البشرية هائلة، وكثافتها منتشرة كي لا نبقى نقول الاختباء خلف الأصبع والوصول للبسمات الحقيقية يكونان بإنجاز تعمل له، وقبل ذلك ينمو في جوهرها، وأن تحبه، ويرافقه طموح تسعى لتحقيقه بجد، وبين هذه الأشياء ينبغي أن تكون هذه الشعوب متصالحة  مع ذاتها، ومنسجمة فيما بينها، وصدقها واقع تؤمن به، حينها نجد أن حركة العمل والبناء تسير أكثر مما يطمح له المرء أو المجتمع، فهل وصلنا إلى امتلاك الحلم الأرضي، بأن نصل بوطننا وشعبنا إلى الراحة والاستقرار أم إن جلَّ مشروعاتنا تحيا ظروف وصنوف التكاذب المؤخر والمخلف لمسيرنا.

كيف بنا ننافس إستراتيجياً، ونردم الهوة بين الحاضر والمستقبل، ونحن نشهد الأمم كيف تسطو على بعضها، والحكومات على مواطنيها، والمواطنين على بعضهم، وإذا لم نستطع القيام بردمها، فما مصيرنا؟ من يحدد السبل التي يجب أن نسير عليها إلى الأمام حصراً؟ وأي مصير ينتظرنا إن لم نسر عليها؟ والأجوبة التي تكون ينبغي أن تحمل الأدلة والمؤشرات، كي لا نفتقد بوصلة القرن الحادي والعشرين.

البشرية بدأت تتجهز لعالم بلا نفط ولا غاز، والمناخ ينذر بالكثير من الكوارث، والأبحاث بدأت تؤتي ثمارها حول الوقود الحيوي، وأنا هنا لا أقدم التشاؤم، لكنني أنذر من التفاؤل الذي يدعنا نستكين للموجود.

لندقق بالواقعية، ولنؤمن بها، ولنقل: إن العلاقات الاقتصادية الدولية إما أنها متذبذبة، وإما أنها تترنح، ما أنتج لغة الصراع والعسكرة والقوة، وفي الوقت ذاته، انتشر الفساد الدولي، وروائحه انتشرت بين المجتمعات والدول والأفراد، وهذا ما أوقف نمو بلداننا في عالم الجنوب، أو عطل نسب النمو، وحوَّل معظمها إلى مدينة نتاج انخفاض السيولات المالية التي ظهرت مع الحروب المفتعلة، عسكرية مباشرة، واقتصادية خفية، أو علنية أيضاً، وانتشار منظومة إرهاب عالمي يسهل تفكيكها وتركيبها أينما يريدوا، واستغلال قتالها لزعزعة الدول النامية أو الطامحة أو حتى المتقدمة، هذا الذي يعيدنا دائماً إلى المربع الأول، ويؤكد لنا أن العالم مضطرب متلون الأمزجة، يمر بظروف معقدة، لا يمكن حلحلتها إلا من خلال إيجاد التوازن الذي لم يستعد، فإننا إلى خراب أكبر، واهتزاز مؤكد إلى الهاوية، المنطق يتحدث عن أن أي تطور يعود فضله إلى البشرية، وإلى اتحاد القوى الدافعة للأفكار بالقوة العاملة التي تحولها إلى إنتاج.

الغرب أخذ بإجراء تحولات عميقة وإجراءات حاسمة داخل مجتمعاته، وأدرك معنى زيف الديمقراطية الليبرالية، فبدأ بإنتاج ديمقراطية دكتاتورية، لطفاً يطلق عليها «غير ليبرالية»، لأنه اكتشف حجم التراجع التنظيمي نتاج انتفاخها لدرجة بدأت شعوبهم بلفظها فعلاً لا قولاً، وراقب انحدار مستوى الإبداع والهبوط في نوعية الإنتاج، وهنا أسأل عنا نحن العرب: كم نحتاج من عمل للوصول إلى الارتقاء بنوعية العمل من أجل الحياة؟ وكم نحتاج للقضاء على آفة الفقر أو تقليص حجمها؟ متى سنؤمن بأن إعادة إحياء الطبقة الوسطى تضمن عملية توليد الطاقات للأعلى، وتجذب الفقيرة ودونها من الحضيض، كي تتخلص من فقرها، وهي وحدها القادرة على إحداث التقدم والدفع بالتنمية المستدامة إلى الأمام؟

كيف بنا نحدث تغييراً في سلوكياتنا وممارساتنا الحياتية التي تنعكس إيجاباً على علمنا وتعلمنا وقدرتنا على امتلاك العلوم بدلاً من امتلاك السلاح على أهميته لحماية وطن؟ من ينقذ هذه الأمة - وأقصد هنا العربية- من غياهب التخلف والأنا الفردية؟ من يعالج هذا الشلل المخيف أمام عصر الفضاء واللغة الرقمية والحياة الإلكترونية التي تسابق الزمن؟ فنحن حتى اللحظة لم نسعَ لأن نسابق أنفسنا لنرسم الاختبارات، ولنمنح الفرص لظهور القدرات، لأن غياب إستراتيجية التحدي تبقينا ضمن احتمالات الفشل أو النجاح، وغالباً ما يكون حليفنا الانتظار، إذا لم نقدم على امتلاك شعور التنافس والتحدي الذي لا يعني التصنيف، بقدر ما يعني الإصرار والالتزام على تحسين الأداء، كي نصل للمنتج الأفضل والخدمة الأمثل والتشريع المفيد.

 مرة أخرى هل يمكن لنا الاختباء أو الاختفاء؟ لنعترف أننا الآن موجودون في الدرك الأسفل من العالم، والعالم يرى كيف تتناهبنا الظروف نتاج تقهقرنا، إن لم نعترف ونبذل مباشرة مع الاعتراف الجهود الحثيثة برأيكم وبربكم فأين سنكون؟

هل وصلنا لتحقيق التوازن النفسي، وأن نوازن بين الذكر والأنثى لأنها جنس إنسان؟ هل نعمل بواقعية لتعزيز لغة السلام؟ هل حددنا أولوياتنا وعملنا على توليد قصص وروايات النجاح؟ ماذا يعني تحضر الهمم وتبادل المنافع وتطوير الخدمات وصناعة القرارات المفيدة التي تهمل صناعة الأدوات؟ ما الذي يعنيه الانضواء تحت راية وطن؟ ماذا يعني عنواننا إستراتيجيات طموحة تبادل الوفاء بين القائد والشعب؟ ما دور الرابطة بينهما؛ أي الحكومة والتشريع والقضاء؟

كيف نعالج التداعيات الإنسانية الحادثة طوال فترة الأزمة واحتياجات المتأثرين من نتائجها؟ كيف تتحدى السياسة غير التقليدية السياسات التقليدية التي انتهى منها العالم، وقضى بموجبها على التسلسلات الاقتصادية التي تولد الاعتياد، وهذا ما يوصل إلى الركود؟ ربما أكون في حالة من التهيؤات نتاج ما أقدمه من محاذير، لكن تبقى غايتي أن زمن التطور أخذ يشق طريقه، وما أنشده أن يكون فيه وعي للإستراتيجيا، ولم يعد هناك حالات خاصة وأخرى عامة، إنما كل شيء مرتبط بالسياسة العامة، وما تواجهه من تحديات أهمها الاعتقادات الشعبوية ونظم التعامل معها، ما سبَّب الفجوات، وفاقم المشكلات بين الإدراك العام وحقائق الواقع والشخصية المتضخمة إلى حدود التخلف.

هل يمكن ابتكار إستراتيجيات من أجل الغد القريب والبعيد؟ طبعاً يمكن إذا تمَّ توفير البيئات المناسبة من خلال انفتاح الذهنيات وقبولها تسهيل حركة العمل وإلغاء ثقافة وضع العصا في طريق العجلات، وإنهاء سياسة الإرباك من كل المناحي التي تأخذ بنا لإنهاء ثقافة الخوف من المجهول والبحث في العلم وصولاً إلى المعلوم، لأنه يبدو أن الخوف متأصل في مفاصل وجودنا وعقولنا، والتحدي يعني تحدي الخوف، ليبدو المسار واضحاً، نخترقه مهما كان هناك من صعاب، وننهي معه مقولة: «ألف قول جبان»، وهذا لا يتحقق إلا ببناء الإنسان فكرياً وإعداده مواطنياً، واعتبار بنائه التحدي الإستراتيجي الأول، وبعدها نستطيع اختراق الصعاب، ونقول: إن تحدياتنا إستراتيجية.

د. نبيل طعمة