الإستراتيجيا والأيديولوجيا

الإستراتيجيا والأيديولوجيا

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٣٠ أكتوبر ٢٠١٨

وصول العالم إلى الانفلات الزماني والمكاني نبهه إلى ضرورة الذهاب إلى عمليات التخطيط لكل شيء في أي محور من محاور الحياة، التي من دونها لا نجاح، والطبع الإنساني طبع متطور، والقادم العلمي مبهر، لذلك وجدنا أن الإستراتيجيا وحدها تمتلك الأهمية، وهذا ما أدى لأن تأخذ مكان الأيديولوجيات الجدلية التي انحصرت عالمياً بين الديالكتيكية والإسلامية والعلمانية، ما يظهر لنا تعزيز دور الجذب الهادئ مكان الانفعالات العنيفة.
نستذكر المشهد الذي كان قائماً في القرن الماضي، فنرى كيف كانت تجري الحرب الباردة بين الحلفين؛ وارسو بزعامة الاتحاد السوفييتي الذي تديره روسيا، والناتو بقيادة الولايات المتحدة، وكل منهما كان ومازال يقود مجموعة من الدول بأساليب متعددة، منها الهيمنة المفرطة، أو التسلل الناعم، فالأيديولوجيا السوفييتية سقطت مع انهيار منظومتها، وهي في حدِّ ذاتها كانت المحفز الرئيس والحساس لزعزعة النظام العالمي، وجعله يحيا القلق والأرق الدائمين من اندلاع حرب كونية لاستشعاره بأن الحرب الباردة سرعان ما تسخن وتندلع معاركها، لكنها تنتقي مناطق مدروسة من العالم، يختارها الطرفان الفاعلان، يدفعان بالوكلاء للقيام بها، ويقومان بتغذيتها.
انتهت الأيديولوجيا الشيوعية، وبزغ نجم روسيا التي تناهبتها الظروف، إلى أن وصل إليها الرئيس بوتين الذي أرادها مختلفة تماماً عن كل ما مضى من جديد، وعاد الشيوعيون إلى مسيحيتهم باستثناء المكابرين من الندرة الباقية، لتبرز روسيا الاتحادية أن وجودها يعني أن يتجهوا للتخطيط الذي يحميهم اقتصادياً وأمنياً وعسكرياً، فظهر جلياً الانتباه الأمريكي لما يقوم به الروس، وسارعوا لتعزيز قواهم في مناطق نفوذهم، ما أنشأ فيما بينهم صراع إعادة توزيع مناطق النفوذ، وتحديد مراكز القوة في أكثر المناطق حساسية على كوكبنا الحي، فشهدنا تقدماً روسياً في القرم، وحضوراً إستراتيجياً في المتوسط، وبشكل خاص في سورية، وانفتاحاً هائلاً على الصين، وتعاملاً حساساً في الهند، واستيعاباً من نوع جديد لإيران. وفعلت أمريكا الشيء ذاته في الخليج والعراق وأوروبا وأمريكا اللاتينية، وظهرت روسيا بالشكل الرأسمالي الجديد، وإرادتها أن تكون في قلب الاقتصاد العالمي، على الرغم من انحصار اقتصادها بين الغاز والنفط والقمح وتصدير التكنولوجيا العسكرية، ما يشير عليها بأن تعتمد سياسة خفية في الوصول إلى أهدافها.
أما الأمريكي الذي يمتلك ما يقرب نصف الاقتصاد العالمي وأكثر، فيعمل بسياسات مفتوحة عنوانها القوة العظمى والاقتصاد المنفتح القوي والمهيمن بتنوع منتجاته، أي أمريكا أولاً، وهذا ما حدده الرئيس ترامب، ليرد عليه الرئيس بوتين قائلاً: نحن هنا، ناهيكم عن القوى الإقليمية التي غدت جميعها تقول أيضاً: نحن هنا.تركيا، إيران، إسرائيل، هي التي نجدها في إقليم الشرق الأوسط.
ما يهمنا من هذا الذي ندور حوله يكمن في أين نكون نحن العرب، فتجاربنا تائهة بين السياسات العالمية الخفية والعلنية، وبعد انهيار الأيديولوجيات العالمية واتجاه العالم أجمع إلى فلسفات التخطيط الإستراتيجي ودفع العجلات على سبل العمل المشترك وفسح الحريات الفكرية وتقبل الرأي الآخر والتعبير عما يجيش في الصدور والتألق الإنساني في الاقتصاد والعلم والثقافة وفنونها، هذه الثوابت تقود المجتمعات إلى الخروج من الامتحانات العسيرة والمطبات الصعبة بدلاً من أن تبقينا في حالة دوران في الفراغ، أو تعيدنا إلى ما وراء الوراء، فهل مازلنا مصرين على عدم الوصول إلى نقطة التعادل واكتشاف خط السلامة من خلال التخطيط السليم؟ وهل نستطيع حفر هذه المشكلة بالعقل السياسي العربي الذي لم ينتبه حتى اللحظة إلى ضرورة إيجاد التماهي بين التجربة والتخطيط؟ حيث إنه يتمسك بالتجربة تلو التجربة التي تقود للانضواء تحت هيمنة القوى العظمى، وحتى الإقليمية الصغرى، بينما التخطيط وجودة التنفيذ يأخذان به إلى الانفلات منها وتنفس الصعداء.
ما الذي يؤدي لحصول التدخلات العالمية في شؤون عالمنا العربي ودوله؟ أليس السبب عدم الاستقرار الاقتصادي بالدرجة الأولى والتمسك بأيديولوجيا مسقطة عليه، وتوهانه بين الفقه الديني الدنيوي وقيمة الإيمان بالمقدس كجوهر نتاج عدم الوصول إلى صيغة ناظمة لانفلاته، ما يستدعي جميع أنواع التدخل الإقليمي والدولي بكل أشكاله؛ اقتصادي واستخباري وعسكري، أليست هذه الحقيقة التي نعمل على إخفائها بدلاً من علاجها، تستحق المعالجة عبر نقاشات موضوعية وعلمية هادئة وراقية؟ ما يدل على أننا إن لم ندرك بعد أبعاد العلاقات الدولية وضرورات التمييز بين القضايا الجوهرية التي تمس حياة شعوبنا والانفعالات التي تجرنا إلى أن نكون هنا أو هناك، ومن ثمَّ نكون مسهمين في تحقيق مخططات الأقطاب المستفيدة التي أنجزت بحرفية إستراتيجية كارثة الربيع الدموي التدميري للفكر العروبي، ولمادياته التي نشرت آثاره الكارثية، وأصابت الجميع أفراداً ومجتمعات ودولاً، وأخذ الكل يتساءل: هل سننجو من آثاره قريباً، أم نحتاج إلى زمن طويل؟ وهل ستباغتنا مجدداً أحداثه، إن لم نقدر على إبداع الحلول؟ وإذا استرخينا لفرضية أننا خرجنا من عنق الزجاجة بمعجزة، ولم ننتبه إلى ضرورة الإفادة مما حصل بعلمية، وأنجزنا مخططات للمستقبل القريب والبعيد والأبعد، فإن عودة ما كان كائنةٌ لا محالة.
ليس لي غاية في إثارة جدل أو غاية سوى أن أولد سؤالاً: هل نحن صانعون في الحياة؟ وإذا قال بعضنا: نعم، فأين إسهاماتنا بعيداً من الأطلال؟ أم إننا بقايا ظلال من الماضي مضطرون دائماً لاستقبال المبهر والفاتن الذي يخفي وراءه الخوازيق المؤلمة، التي ما إن تنكشف حتى يبدأ صراخنا وعويلنا وندمنا، فنذهب لعلاج ما حل بنا ليبقى الفارق شاسعاً بيننا وبين التقدم.
على أيّ أيديولوجيا نتناحر، ورؤساء العالم يتجهون لأن يكونوا رؤساء لكامل شعوبهم، لا رؤساء لمعتقداتهم؟ إنهم يعملون لتحقيق التوازن بين المنتجين لأوطانهم، ولمن يحمل جنسية وطن بعيداً من تعدد الأديان والأحزاب والإثنيات والقوميات، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على قوة إرادة التطور والتخطيط الإستراتيجي على حساب التقوقع الأيديولوجي أو المذهبي والطائفي، نعم نحن العرب لدينا فرص للنجاة منفردين أو مجتمعين، والأفضل أن نمتلك لغة الجمع، لأن فيها التكامل، ولن نقول إنها الفرصة الأخيرة رغم إضاعتنا الكثير من الفرص وتحميل فقدها للآخر أو إلغاء تبعاتها عليه.
الأوضاع أكثر من معقدة لدينا بعيداً عما نشاهده من صراعات القوى العظمى والإشكاليات مستمرة، المهم الآن الاتجاه حثيثاً والبدء سريعاً في معالجتها، وهذا ما يدعونا لوحدة السياسة وانتباهها لمخلفات الحرب الباردة والساخنة وسد الثغرات بتعزيز لغة الوطنية، والإيمان بالوطن يكون أفضل وأقوى الأسلحة التي تمنع الاختراق وتوحد الجهود للانطلاق إلى الأمام، فالمتغيرات سريعة، والمطلوب أن نتحول إلى كتلة اقتصادية نوعية مؤثرة وفاعلة، تستمر وتستمر إلى مدى بعيد وتقبل التطور.
وما نرغب فيه نحن العرب، كما ترغب فيه شعوب العالم المستضعفة هو المواقف الأخلاقية تجاه دولنا، لأن ما نسمعه منهم عن حقوق الإنسان والعدالة الدولية والرفق بالحيوان، ما هي إلا شعارات حالها حال الصلوات والأدعية التي لا تجلب الحقوق، ولا تنهي الحروب، ولم تعد نافعة لإصلاح البشرية، إنما الإيمان بالوصول والعمل بما نؤمن يوصل إلى ما يراد، رغم أن الإنسان يحتاج إليها في حالة قلقه وخوفه من أخطائه، لكنه يبتعد عنها عند حصوله على الوفرة التي تؤهله للتخطيط لغزو الآخر.
الإستراتيجية فكر استقرائي لا يحصل عليه المرء بسهولة، إنما بالجهد العلمي والوعي الخلاق، وهذا ما يحدث الفارق بينه وبين الأيديولوجيات.

د. نبيل طعمة