الإنسان والمجتمع

الإنسان والمجتمع

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٩ أكتوبر ٢٠١٨

الأمور تجري لمرساها، رسمت بميسم البداهة، وتفاعل معها الخاصة بلا دهشة ولا قلق، بينما العامة أخذهم الخوف، وعلت وجوههم الرعشة، فإذا لم يقدروا على الاستواء، ظهر الشذوذ والانحراف على منحنيات قياس الحضور والتطور، ما يستدعي الإسراع في إيجاد العلاج، ومن أهم أنواعه أن يتقدم أصحاب الفكر النافذ؛ سياسي، اقتصادي، اجتماعي، ديني، لتدبّر هذه القضايا بعد فرد مواطن الخلل ومواجهتها بحرفنة صورة الإعلام ووسائله، وأهمها المخاطبة وقيمة قوة مفرداتها الظاهرة والمبطنة.

التأكيد يشير إلى أن لا مجتمع من دون إنسان، ولن يكون إنسان إلا في مجتمع، والمجتمع يعني الحياة الحركة التي تنتج البناء، وهذا كان في الماضي، نشهد عليه حاضراً، وسيكون كذلك فيما سيأتي من الزمن، وكل هذا يحضر في الوعي العام، يقوده فائض الوعي الذي رسم مسارات الحياة الزراعية والمدنية التي أظهرت الساسة إلى جانب الكهنة، والمحاربين إلى جانب الحرفيين المهرة، والمفكرين الفلاسفة والعلميين ومبدعي الجمال إلى جانب المنفذين بعد تعليمهم.

دعونا نكوّن سؤالاً ينبع من ذات كل إنسان: لماذا أنا موجود؟ وهل حقاً أسهم في تكوين مجتمع؟ وأضيف: ما معنى إسهامي فيه؟ كيف أساعده، وماهية إفادتي منه وله؟

تتراكم القرون ونحن نعد العقود، ننحني أمام ذكرى أولئك الكبار الذين قضوا بعد أن أرونا أن العلم تجارب وحقائق، وأن لنا - نحن المستمرين فيه- المنتج وحرية الاختيار، ندع للقادمين التطوير والإبداع، ونساعد المسهمين من أجل استمرار المجتمعات، لأن نتاجاتهم لا يمكن فصلها عن بعضها، لكونها تعمل وتحيا عليها، حتى وإن انتهى مفعولها المادي، إلا أنها تبقى في الذاكرة المتوارثة، وعندما نتجه إلى عنواننا نسأل: كيف ننتصر له؟ ومن يحاول هزيمته؟ من يغير حياته؟ من يصنع له السعادة أو يرميه في الشقاء؟ والأهم من كل هذا وذاك، لماذا وجد، وما الغاية من وجوده؟ هل الماضي أم المستقبل؟ هل يسكن جهلنا في معرفتنا والشك يوصلنا إلى المعرفة؟ أم في حاجتنا لدراستنا للتاريخ؟ أم في تأملنا في الحادث المتأخرين عنه وبحثنا اللاهث للوصول إليه؟ أم إننا في حالة تيه تسعى للوصول إلى القواسم المشتركة بين إنسان المجتمعات، وهي المسؤولة على ما يبدو عن إنشاء الخصومات والتهاترات العلنية والخفية التي توصل الجميع إلى الاقتتال وتدمير البناء بأشكاله كافة؟ وأهمها بناء المجتمع لإنسانه.

كيف بنا نعلم سكان مجتمعاتنا ما يحتاجونه في عملية فهم واقعهم؟ هل يكون عبر إعلام ممنهج موثوق استقرائي، يستطيع توظيف أفكاره الاجتماعية بعيداً من أي تعصب أو كراهية؟ ويكون رابطة جامعة لا زيف فيها، يبتعد عن انقسام أمية الفكر.

الذين لا يميزون الظلمة من النور، ولا يفرقون بين الحق والزور، أولئك الذين يجرون خلف التسليم الذي يجدون فيه سهولة البيان، لا الجري والتعب من أجل التبيين، وأن التقليد أسهل بكثير من الإبداع والتطوير، لأنه يستر التخلف، ويمنع التفكير، وعليه يكون أن أي فتور يحصل في حركة المجتمع يكون سببه الفرد الإنسان، بعد أن يختل التوازن، محدثاً الاضطرابات بين السياسة والدين، فما الذي سيعطيه للدنيا والمطلوب دينياً أن يخبئه للآخرة؟

 إن ضياع مفهوم المجتمع  المتكامل يؤدي لأن يتصرف كل فرد على هواه، وهنا تكون الطامة الكبرى، حيت لا يكون هناك لغة جامعة، وقواعد وأسس متينة، ويسمح للأفراد والأديان بالتشدد والتطرف الذي يخلخل أي مجتمع.

من يرشد مجتمعنا؟ من يديره؟ مؤكد أنه إنسان أبدع الأسماء وجميع العقائد، وصنّع له كل احتياجاته ومازال يصنع، وكل ما تعلمون وما لا تعلمون، ومنه علم مجتمعه كيف يقودها، ولنقس على ذلك كل شيء مادي احتاجه المجتمع الكبير والأصغر والصغير، من خلال ما أنجزه إنسانه من فلاسفة وعلماء ومفكرين وبنائين وقادة حقيقيين ومثقفين واقعيين، الذين تاهوا بين الآلهة إلى أن استووا إلى الإله الأعظم، أولئك الذين قدموا أيّما تقديم بفعل الإلهام الكوني والتأمل المنتج للحركة والسكون للفعل ورد الفعل، للصعود والهبوط، للتسلق والتملق والسقوط، ووصلوا إلى مسمى الله الفريد أو الإله الكلي، الذي حمل أل التعريف، ولـ "هو" تكون العائدية من الحاضر الغيبي والغائب الحاضر خوفاً وحباً، فإنسان المجتمع احتاج إلى قوة يحبها، والبشر بحثوا عمن يرهبهم، لأنه من دونه كان الانفلات، ومعه كان الانضباط إلى حدّ ما، فالبشر أقسى من كل أنواع القسوة على بعضهم وعلى الحياة، ومن أجل ذلك وجدت الحاجة لإنسان يقود المجتمع البشري الذي يتكاثر من دون فهم دقيق للحياة وموجوداتها.

إنسان المجتمع مؤمن لا يمكن له إلا أن يثق بإنسانه، إنسان الله القديم المؤسس لجميع قواعد الحياة الفاعل ضمنه، ونجده فاقداً الثقة ببشره الكثير الذي يسعى للانقسام كالخلية السرطانية الشرهة لكل شيء، تأكل بلا تفكير، تعمل بلا إبداع، مسيرة تنتظر الأوامر، حتى إنها لا تصل إلى إشباع ذاتها، وهي ضمن ذاتها، لذلك هو مستمر في التكاثر اللاواعي، ولا يمتلك القدرة على وقف لغة أريد، وأريد كل شيء، أي فاقد السيطرة، ومنه أجد أن هذا الإنسان القديم الجديد المتجدد محارب شديد ومقاتل عنيد وفارس مقدام، يتشابه مع الإله في الصفات من أجل ضبط البشر وحكمهم وقيادتهم رغم استثماره لهم في الأديان والأعمال التي يوكلها لهم، يشكلهم ويصنفهم -حسب الاحتياجات- وقود الحرب والتجارب وحوامل النجاح، ويحملهم مسؤولية الفشل، لأن هذا الإنسان الذي وجد من عمق التاريخ مستمر عبر كامل الحقب، وصولاً إلى حاضرنا، ومن ثمَّ إلى ما سيأتي من الزمن.

لم يدرك البشر وجوده في مثلث القداسة، وأنه مات ولم يمت، وقتل ولم يقتل، وصلب ولم يصلب، ولم يقطع رأسه، ولم ينته خيره، وكذلك كان ضد الشر والفساد ولم ينته هذان الضدان، الحب والكراهية، الحرب والسلم، لأنهما من فلسفة الحياة.

إنسان المجتمع بنَّاءٌ نوعي لا يعرف الهدم، يحاسبك، يحادث جوهرك من دون أن تدري، مسكون فيك، أسألكم: عن الصمد المصمود في العقول وعلى الصدور حامل الآلام والآمال المشاهد في طور سينين، الذي نتحدث معه، ونطلق عليه المسميات، الله، والمسيح، الرب ويهوى والضمير والحي الذي لا يموت، والروح من الروح والروح القدس، كل هذه المسميات التي تجسدت في خليفته صورته التي في السماء وحقيقتها على الأرض.

أسألكم معشر البشر مع من تتحدثون عندما تخلون إلى أنفسكم، أو عندما ترتكبون الأخطاء الجسيمة أو الخفيفة لحظة يتسارع نبض قلوبكم هلعاً وخوفاً من أن تتعرى أخطاؤكم؟ ألا تضربون الأخماس بالأسداد؟ وحينما تستدعون للمساءلة وأنتم ذاهبون للإجابة، ألا تستحضرون ذاكرتكم وتراجعونها من لحظة وعيكم، وتقولون لعل هذه أو تلك أو ذاك النقاش الذاتي الذي تجرونه، أليس مع إنسان المجتمع المسكون في أعماقكم، يتحول إلى أمامكم من أجل كشف الحقيقة؟

لذلك أدعوكم دائماً للتفكر والتأمل والبحث عن إنسانكم خاصة كل منكم، فإن لم تجدوه فابحثوا عنه، واسألوا عن سبب فقدانه، هل فَرَّ من أخطائكم؟ هل فكرتم في جمع الأدلة عن هذا الإنسان الذي أنتم منه؟ هل أجريتم المقارنات في كل ما تحملونه ضمن أجسادكم؟ أعترف أن اختلاف العقول لا حل له إلا بالمعرفة والعلم والارتقاء عبر التمتع بالفنون المنتجة لعملية الجمال، بعد أن نكون قد شككنا فيما نريد من أجل الوصول إلى المعرفة.

د. نبيل طعمة