العامة والله

العامة والله

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢ أكتوبر ٢٠١٨

العمل عبادة، والعبادة فعل ومنتج وقيم وإيمان، والمقدس تحدث عبر متنه المحفوظ في الكلي: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»؛ أي ليعملوا ويتفكروا ويتأملوا ويبدعوا ويخلقوا كل جديد، والمكون الكلي قال في المتن المرسل ذاته: «تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ» أي إنَّ هناك خالقين، فهو صاحب الخلق الروحي، وترك للإنسان الخلق المادي، وفعل هذا الإنسان بعد أن أدرك وظيفته المادية وتوقف عند الآية الكريمة: «وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ»، وهنا يدلنا على دقة اختصاص الإله، وما منحه للإنسان الذي أجاد خلق الماديات، فذهب للتأمل في الطير فصنع الطائرة، وفي الحوت فصنع الغواصة، وراقب البعوضة فصنع الهيلوكوبتر، وكذلك تابع في السيارة وكل ما يحتاجه من الإبرة حتى الصنارة في حياته المادية وفي سفر الملوك الأول لِعُوبَدْيَا: «اذْهَبْ فِي الأَرْضِ إِلَى جَمِيعِ عُيُونِ الْمَاءِ وَإِلَى جَمِيعِ الأَوْدِيَةِ، لَعَلَّنَا نَجِدُ عُشْبًا فَنُحْيِيَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَلاَ نُعْدَمَ الْبَهَائِمَ كُلَّهَا»؛ أي إنَّ الخلق الإلهي يحتاج إلى رعاية المخلوق الإنساني، ولا يختلف اثنان على أنَّ العمل الإلهي تجلى في البدء خلق الله السموات والأرض، وكانت الأرض خربة خالية، وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله ترف على وجه المياه، وقال الله ليكن النور، فكان نوراً، ورأى الله النور أنه حسن، وفصل الله بين النور والظلمة، إلى أن فرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل واستراح في اليوم السابع بعد خلقه للإنسان في اليوم السادس من جميع عمله الذي عمل، وفي المقدس القرآني سورة البقرة: «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»، هذا يدلنا على الخالق الذي أراد أن يستمر في مخلوقه الإنساني المفضل حيث قال: «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» مرة أخرى الغاية من هذا الاستمرار وتأكيد الدلالة على استمرار الإبداع من اسمه البديع وتصوير الإبداع من كونه المصور والقيادة التي حولها من كليته إلى الإنسان الذي أراده أن يكون قائداً، لأنه على شاكلته القائد «Gaid» و«God» و«Gid» و«Guido» ألقي بهم على الإنسان الذي اعتبره ابنه، وحول المجموع إلى أبنائه وعياله عبر حديث النبوة، كلكم عيال الله، وكما هو حال الأسرة تنجب الحسن والأحسن والمقبول والسيئ، ويشار إليهم بالعامة والخاصة وخاصة الخاصة؛ أي الكثرة، وهم سواد البشرية والندرة التي تقف بينها وبين ندرة الندرة، ليظهر الظلم البشري الواقع من ذاته يوقعه على العامة والله في آن.

تستطيع خاصة الخاصة قيادة مجتمعاتها ودولها، لأنها منخرطة في القيادة العالمية، أو تعمل ضمنها، بينما الخاصة التي من المفترض أن تكون واقعية ورابطة بين الأدنى والأعلى فهي غير متفهمة لدورها، لأنها تلعب على مصالحها، وهنا نقول: من يرهق العامة ويزهق أرواحها؟ من يسرق الإله ويصوره على هواه؟

الأفعال الحادثة تأخذ بنا إلى أن عملية ولادة للعالم بشكل قيصري تحدث، أو يجبر الآن بعد عقود من الاضطراب الاقتصادي والسياسي والديني والعسكري على أحداثها، لكون الجميع بحاجة ماسة لها، ولكن الكيفية التي توصلنا إليها بعد أن مررنا من الجحيم، وكدنا نصل إلى برِّ الأمان، وخلالها تابعنا عالماً من القذارة والوقاحة والتدمير الممنهج والموت المبرمج والجراح النازفة، إلا أن كل ذلك لم يثننا عن متابعة العمل والتعلق بالأمل بالتزامن مع تدويننا على صحف التاريخ.

إن الآبدين هم الأرض والله والحاكم، فلا يكتمل المثلث إلا بهم، هل يمكننا أن نتصور هذا الكون بلا خالق، وأي دولة بلا قائد؟ وبينهما نتفكر في وجود هذا الكوكب الحاوي لكل شيء والحامل على ظهره منتجه من الإنسان وما يحتاجه.

انتهت حروب المبادئ، واتجه الجميع لحروب المصالح؛ أي أبعدت الأخلاق، وتقدمت على حسابها المطامع، وبالتدقيق البسيط يرى الجميع أن البشرية وعبر كامل الحقب الزمنية، لم تتعلم سوى فلسفة التسوير استعداداً للحرب واهتمامها الرئيس في تطوير وامتلاك أدواتها، ومن ثمَّ استعدادها الغريزي للسطو والغزو على مقدرات بعضها، وإن كان هناك من فترات هدوء، والتي أطلق عليها الركود التكتيكي، أو تسليح السلم، ما هو إلا استعداد للحرب القادمة على اختلاف أشكالها؛ سياسية، اقتصادية، دينية، لتصل في شكلها النهائي إلى عسكرية، فأي فكر يحمله البشر، وهل هو فعلاً على شاكلة الإلهين تموز وبارس، تلك الآلهة التاريخية، وما علاقتها بالإله الكوني الذي آمنت به البشرية جمعاء ووثقت به.

العامة والله، أقصد هنا العامة جميع الشرائح الوظيفية بطبقاتها المتعلمة وغير المتعلمة، ومهما كانت درجاتها، غنية، متوسطة، فقيرة، حيث تتناول أي حدث من دون معرفة بحقائق الأمور؛ أي إن دورها يقع بين المتلقي والناقل، تلتزم بفلسفة الراعي، وربما تتمرد عليه من دون وعي، وتحمل الأمية السياسية، وتعتقد أنها كذلك، وهي ذاتها التي تتمسك بالله من دون إدراك ماهيته بالفطرية والموروث؛ أي هذا ما وجدنا عليه آباءنا، وتشددها مرعب، واستكانتها مخيفة، تستخدم الله بالتوجيه، وتديرها خاصة الخاصة بامتياز، وهي في الوقت ذاته وقود الحروب والعمل والإنتاج والهدم والبناء، إذاً فهي تتحرك ضمن مخططات، وتؤمر بالتحرك والسكون، لأن نظرية الحرب التي كتبت عنها قبل عقد من الزمن تقول: إنها تقوم بين من يعرف بعضهم بعضاً جيداً، يخططون لها بامتياز، يدفعون إليها بأشخاص لا يعرف بعضهم الآخرَ أبداً، ويموت من جرائها بشر، لا يدرون عنها شيئاً. هي هكذا فلسفة حكم العالم من الكلي والدول، من القادة من ينجحون أو يفشلون، لكنهم قادة، ويدخلون التاريخ سلباً أو إيجاباً، كيف بنا نتحرر من عقدة الحروب التي ما إن تهدأ حتى تبدأ.

الله عمل عمله وكان عمله حسناً، وأنجز ملكوته واستراح من دون غفلة عما يجري فيه، ينصف هذا ويحاسب ذاك، ولو بعد حين، كيف بنا نتعلم منه العمل الحسن الذي أنجزه لخلقه؟ وكيف بنا لا نعمل لوطننا كما يعمل الآخرون لأوطانهم بعد أن تعلموا من عمل الرب الإله؟ فإن لم نعمل له ضاع وأضاعنا، أو ضعف وأضعفنا، هذا ما يدعونا للعمل بجد وإخلاص، ما يعيدنا للحضور، وهذا ما يشكل علاقة الثقة بيننا وبين الإله، ويجسد مبدأ وحدة الوجود الذي يعلي وجودنا، وحديثنا القادم يكون عن وحدة الشهود وعلاقة العمودي بالأفقي؛ أي هذا الإنسان الفريد في حركته وسكونه، أليس هو كذلك؟ من أجل أن يلتقي الآخر، ويقود موجوداتها على اختلاف تنوعاتها حيوان ونبات، ويستثمر في مادياتها الظاهرة والخفية من أجل استمرار الحياة، لا من أجل تدميرها واستهلاكها بشكل مريع، لأن الله يجسد الأمل، والإنسان يكون العمل.

أيها الناس، أيها المتدينون، أنادي المخترعين والمبدعين الفنانين العاملين على الإبداع في الفنون السبعة، كما أتجه إلى العامة الوظيفيين والبسطاء والفقراء والأغنياء، وإلى الساسة والمفكرين والمثقفين والفلاسفة والصحفيين، وإلى الحكومات السرية والعلنية، أنادي على الجميع أين أنتم؟ أين نحن من هذه الحياة التي يسودها الإرهاب عبر كل أشكاله، والقتل بكل أنواعه، والاعتداء على اختلاف مسمياته؟ أين الإنسان منا ومن أفعالنا المشينة تجاه بعضنا؟ أين نحن من اعتدائنا على بعضنا، على العامة من إنساننا، من انتهاكاتنا لحرمات الله؟.

د. نبيل طعمة