التديُّن والإلحاد

التديُّن والإلحاد

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٨ سبتمبر ٢٠١٨

أبدأ بسؤال أوجهه للجميع: هل أنتم متدينون؟ وإذا كنتم كذلك، فأين أنتم من الإيمان؟ وماذا يعني التسليم للغيبي؟ وما الفارق بين الإيمان والدين ودين يخصّكم، وعلاقتكم بالإله، وخاصة دينكم؟ ألا يعني التشدّد في ذلك تطرفاً؟ وما مصير الإيمان بالآخر، بالعلم والعلمية والبحث والتدقيق والفلسفة ومقتضياتها، والآخر الذي يدين بدين آخر أو بمعتقد؟

أختزل إجاباتكم وأجزم أن جميعكم متدينون، وعلى اختلاف أديانكم ومذاهبكم وطوائفكم ومعتقداتكم؛ بوذية، هندوسية، يهودية، مسيحية، إسلامية، وجودية، علمانية، مارمونية، إنجيلية، شهود يهوِى، وحتى من يعبد الشجر أو الحجر أو الشمس أو القمر أو الأعضاء التناسلية، أو أي نوع من الحيوان من طائر أو دابٍّ أو زاحف اتخذ هذه العبادة من خلال أسس لها منطق مقنع لحظة أن تحاوره بمنطق، ومن خلالها تحكم على درجة إيمانه، وحتى من عبد الوثن أو الصنم، وأن له إلهاً أكبر لاعتقاده أنه يوصله إلى الحقيقة، والحقيقة تعني أن بداخلك شيئاً يسكن جوهرك، يتمسك به ويقبض عليه فكرك، وكأنك تمسك جمرك من دون أن تشعر بحرقة، والسبب أنه يمتعك ويمنحك شعوراً فريداً، هذا في التدين، أما الإيمان الذي يعني الأمن، فإنه ضد الخوف، والأمن يعني الاستقرار والطمأنينة، وإذا وصل إليه المرء أعطى الآخر الأمان، وأقدر أن أعرفه بأنه قوة الاعتقاد في شيء ما مُعرّف، مادياً كان أو لا مادياً، لأن أي اعتقاد يحتاج إلى قوة ذاتية تمسك به.

من قال إن الأديان يمكن أن تكون ديمقراطية؟ فإذا وصلت إلى ذلك فقدت ثوابتها، وهي متشددة حتى مع رعيتها، تضبطها من الانفلات بالتهم الجاهزة، وأهمها الكفر والإلحاد، حتى إنها تقوم بمطاردة الخارجين عنها أو ناقديها، تعزلهم وتلفظهم وتضعهم تحت ضغط الإرهاب الديني، لذلك نقول: إن الإيمان يجسد حقيقة الديمقراطية، ووحده يكفل الحريات بكامل أبعادها، ومنه يتوالد التسامح واحترام الرأي والرأي الآخر، لأنه يمتلك عقلاً منفتحاً وقلباً محباً، وأن المؤمن لا يُكَفّر أحداً، لأنه يدرك أن الآخر مؤمن أيضاً، بينما المتديّن يكفّر، لأنه يريد الآخر على دينه، أو على شاكلته، فمن يخالفه فهو كافر، وإذا حاوره أطلق عليه بأنه ملحد، بدل أن يحترم ما يعتنقه أو يعتقد به.

من هنا أدخل في فكرة الإلحاد التي تعني الاعتقاد بعكس ذلك، أي إنه إيمان بنقيض ما يؤمن به الآخر، وله أسبابه التي يستند بها عليه، فهو يفتح باب النقاش الحر، ويأخذ بنظريات الشك وصولاً إلى اليقين والتجربة التي توصله إلى النتيجة، مبتعداً عن مركز العواطف ومبدأ التسليم، مقدماً سيادة العقل على القلب، فاسحاً المجال أمام الفلسفة المنطقية وصولاً إلى جوهرها الذي يحقق من خلالها التطور الاجتماعي، ومعتبراً أن الضرورات أوجدت ولادات علمية وروحية لا تنفي سابقاتها، والإيمان وحده يعزز وجودها، ومعنى الإلحاد أنه مَالَ أو أخذ طريقاً آخر عن السائد، أو خرج منه.

لماذا نخوض هذا المبحث ودعوتي هي أن نكون مؤمنين، وعندما نعود إلى ذلك يحق لنا أي للمؤمنين النقاش في مسائل حقيقة الموت وخلود الروح، وأن نتجه إلى مفاهيم المهارة والقدرة والإبداع العقلي وموضوعية استثمارها وفهم الرسائل المنتشرة على كوكبنا الحي والقادمة منه، ومع اتساع قدرات العقل والكشف عنها وتطورات العمليات التبصّرية المسؤولة عن تطور اللغة البصرية، حيث أخذت تكتشف حجوم الأخطاء الفكرية التي أصابت العقل البشري، فكان لابدَّ من البحث في الظواهر الطبيعية التي تردّها إلى أسباب حدوثها وامتلاك علومها، بحكم حاجة المجتمعات لامتلاكها.

أيها السادة: هل الحياة مصنوعة من لحظات أم في سبعة أيام؟ «هل من يتفكر في ذلك ملحد»؟ والإيمان يدعو للتفكر في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، ألا يدعو المقدس إلى التفكر والتعقل والتبصّر والتدقيق بعد امتلاك العلم والمعرفة؟

لا فلسفة في الأديان، إنما هناك فلسفة في الإيمان، وجميع الفلاسفة والمفكرين وسواد المثقفين مع المتأملين هم مؤمنون وغير متدينين، لأن البحث في أي دين مقدس أو وضعي يتناوله العقل، المؤمن سيجد لديه القدرة على عدم الاكتمال فيه، ومن ثمَّ النقد لبعضٍ من بنوده التي قام عليها، أو الدخول عبر روابط تؤدي إلى فهم علاقة الدين بالمجتمعات لشموليته وقدرته «وأقصد هنا الإيمان» على تحليل العلم والنفس والوحي والإيحاء بين النبوة والإله، بين الآب والابن والروح القدس، بين موسى ويهوى، بين بوذا وكونفوشيوس والتركيبة الكونية المحركة والمتحركة وعلاقتها بالحياة الحية وصولاً إلى التعمّق في طبيعة الذات الإلهية وتوصيفاتها والتزام البشرية الروحي بوجودها وهيمنتها، كل هذا لا يستطيع المتديّن تحليله واكتشافه، إلا إذا آمن فعلاً، وهنا يبدأ وصفه بالإلحاد ومفرداته الهرطقة والتجديف والزندقة والإشراك والكفر والمروق الملّي أو المذهبي أو الديني، وهؤلاء المتهمون بالإلحاد يكونون من المجتهدين والعلماء والباحثين والمفكرين الثائرين على التخلف الفكري السائد المتمترس خلف الانقياد إلى الوراء، لا إلى التقدم والحياة التي تريد الجهود لامتلاك قواها والتأثر فيها.

لنعد إلى مذكرات رواد الفضاء الذين وصلوا إلى القمر، وجالوا في فضاء هذا الكون واكتشافاتهم لدقة توضعات كواكبه وانتظام حركته وإيهاب جماله، تحدثوا بأن لابدّ لهذا الكون من خالق، وأننا نؤمن عميقاً بوجوده، لكننا نتوقف عند ماهيته، وهم من أديان مختلفة وعقائد وضعية؛ أي من الديالكتيكيين أو الوجوديين أو العلمانيين.

الإيمان يعتبر أن فكرة البحث في نشأة الكون والنظريات التي شقت سبلها في العقل قابلة للنقاش، وأنها إبداع فكري لا ينبغي الاستهانة به مثل نظرية وحدة الوجود ووحدة الشهود، ومهندس الكون الأعظم، ونظرية الاحتمالات وجدلية المصادفة والنبع الواحد والفروع المتعددة والعلمانية، والتأمل التصوّفي وصولاً إلى الحقائق وابتعاداً من التسليم والتسيير، فما معنى العقل وخياراته؟

إنها أكاذيب الأنا العُلوي التي لا تقول الحقيقة، بل تدعيها، كتبت في نهايات عام 2015م: أيها الناس لا جحيم لكم، لأنكم تصنعون جحيمكم بأيديكم، وقلت أيضاً إنه كلما اتسع العقل اتسع الكون بغاية فهم أشمل للحركة والسكون والبناء والهدم، وخضت غمار فلسفة المخلص الموجود لدى جميع الديانات والحاجة إلى فكرته من أجل استمرار الوظيفيين وحكمهم وتعزيز تبعيتهم للأديان من المتدينين والبسطاء وأميي الفكر، ومنذ أكثر من شهر تحدث قداسة البابا في حاضرة الفاتيكان قائلاً: أيها الناس لا جحيم لكم، وقدم لغة فريدة أنه بعد ألفي عام لابدّ من العودة لتصحيح وتطوير بعضٍ من أفكار المقدس، وهذا لم يأتِ من شخصية عادية، بل من استثناء، فهل يكون ملحداً، وهو الذي يدعو في جميع عظاته إلى المتدينين أن آمنوا، هل يخرج علينا أحدٌ من المفسرين أو الأئمة ليقول لنا إن لدينا في تفاسيرنا أخطاء هنا أو هناك؟ أم إن تعزيز ثقافة الخوف بدءاً من خوفهم هو المطلوب؟ والإنجيل المقدس والقرآن الكريم والتوراة وأفكار زرادشت وبوذا وكونفوشيوس وغوته وهيغل وابن خلدون، ألا تتحدث جميعها عن فكرة الإيمان؟ فهل يكون كل هؤلاء متهمين أو متهمين لبعضهم بعضاً، أم إنه آمن كلٌّ بما اعتقد?

في العالم الفكري لا يوجد إلحاد ولا ملحدون، لأن الجميع مؤمنون، وهذا هو حال أهل الفلسفة والفكر والثقافة والتفكّر والتأمل والتصوّف، لأن كل ذلك حق من حقوق الإنسان، والعقل حرٌّ فيما يطرحه، ويختار من دون تطرف أو تشدّد، فالأديان حاجة، والإيمان حق، والواقعية تقودنا إلى أننا محكومون لجدلية أن نكون مؤمنين أولاً

د. نبيل طعمة

.