الحلال والحرام

الحلال والحرام

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١١ سبتمبر ٢٠١٨

مفهومان أظهرا الخلل الهائل في المشاريع الدينية الإسلامية التي مازالت تعتمد على المفسرين الذين لم يصلوا إلى المراتب العلمية للنص القرآني وتفكيك ألغازه الفكرية والفلسفية العميقة، ولم يستطيعوا أن يتحولوا للتطوير مواكبةً لمقتضيات الحياة والبحث بمبدأي الصح والخطأ القريبين من الذهنية الإنسانية العلمية والبحث في المسائل التي يجريها العقل والخبرات الإنسانية المتراكمة نتاج تقارب الثقافات وتداخلها بسبب وسائط النقل الفضائي بكل تنوعاته، حيث أوجدت تناقضات هائلة يفرضها عنواننا على مجتمعنا العربي والإسلامي الذي أربك مسيرة التطور لديه نتاج وقوعه في حبائله، ومن ثمَّ توهانه فيه بعد نفيه لتدرج الألوان، وأصرّ أن الحياة لونان، إما أبيض وإما أسود، والعالم يتقدم بتسارع مذهل، ونحن منتظرون نبحث عن المنطق في اللامنطق، فإذا كان لدينا الجميل والأجمل والخارق في الجمال، وكذلك السيئ والأسوأ وعديم الفائدة والعدم والضعيف والمقبول والجيد والممتاز، وإذا كان لدينا اللذيذ والألذ والرائحة الشهية والعطرة والمقرفة والنتنة والخانقة، فبأي حقّ نحكم ونجزم ونقرّ بأن هذا حلال وهذا حرام؟ هل العلم حرام والدين حلال؟ هل الفلسفة حرام والتسليم حلال؟ هل الشك كفر واليقين إيمان؟ هل الإلحاد هرطقة وزندقة والتسليم بالغيبي إيمان؟ هل الفنون السبعة محرمة والبيع والشراء حلال؟ كيف بالمرء يفعل السبعة وذمتها، ويقول: حلال ويحرمها على الآخر؟

أليست الأفعال الإنسانية تمتلك التنوع وتعتبر أجزاء مكملة للحضور الاجتماعي الذي يختلف مع كل حقبة زمنية؟ وإذا أصر على بقائه كجزء يعني أنه أفرز وجوده عن ذلك التنوع، ألا يعتبر الإصرار على عدم الانصهار أو تشكيل النسيج المختلف الألوان عنصرية، تظهره أنه ضد التطور ومتعاكس الاتجاه مع حركته.

ما الفرق بين ابن الخطيئة التي تعني الزنا وابن الحرام؟ والحرام هنا كما فسره الإمام المقدر من الذات العلية، بأنه يسكن صلب الرجل، حتى اللحظة لم يقدر الفكر الإسلامي أن يفتح نوافذ في جدار الثوابت المحرمة، أو أن يطل ليرى ما حدث في محيطه رغم أن سواد ما يلبسه ويتغذى عليه، ويستخدمه ويركبه «يتمكيج» ويتعطر به هو من منتج الآخر، أو بأدوات غيره، أي بامتياز يأخذه منه، وفي الوقت ذاته يدعو لمحاربته ولعنه، ويفتي بتكفيره، لذلك يبقى بعيداً من تقديم رؤية جديدة حول المسائل الأخلاقية، وإذا كان هناك من حاول، فإنه خاف أو اختبأ تحت مقتضيات النص المقدس، أو أولئك المفسرين الماضويين المستمرين في الصور الجديدة لهم، لأن الذهنية الإسلامية مشبعة بأفكارهم على الرغم من أن البعض يهاجمهم في العلن وفي السر حاملاً لأفكارهم من دون إحداث أي تقدم أو تغيير.

تابعوا معي مسألة واقعية، التقيت بتاجر عربي خليجي، كان ذلك في ثمانينات القرن الماضي في ألمانيا الاتحادية، أراد أن يشتري كمية كبيرة من معلبات الديك الرومي، ذهبنا إلى الشركة المنتجة، وتباحثنا معهم وتوقفنا عند مسألة الذبح فقلت له: إن العملية تتم بالصعق الكهربائي للطيور، أي إنها لا تتم على طريقة الذبح الإسلامية، طبعاً رفض العملية لأنها حرام، وعدنا أدراجنا، وفي المساء وجدته يحادثني قائلاً: ألا يضعون عليها لاصقاً بأن الذبح تمَّ على الطريقة الإسلامية، وأن الطريقة حلال؟ قلت له: نسأل، وفعلاً أجابوني بأنهم جاهزون، بأن يكتبوا على العبوات ما نريد، وتمت الصفقة، وتكررت بعدها مرات ومرات، وأيضاً منتجات اللحوم المستوردة والأجبان وجميع أنواع المعلبات، هل حاولتم مرة واحدة التفكر أو قراءة محتوياتها؟

ما معنى انتشار البنوك الإسلامية في الدول العربية والإسلامية؟ وأن التعامل مع أي بنك منه يعني التعامل بالحلال، وأن لكل بنك منها مفتياً يفتي لها، وهذه الظاهرة التي انتشرت ألا تتلاعب بالعقل العربي الإسلامي؟ ألا تتماثل مع البنوك الأخرى، وتستثمر أموالها مثلها تماماً بعد أن استمدت تعاليمها منها؟ وهل البنوك الأخرى حرام؟

ما معنى أن يلجأ التجار إلى فتاوى تبيح أعمالهم ليستخدموها في التصنيع والتصدير والاستيراد والمناقصات؟ وكذلك الدولة تستفتي موظفي الأوقاف وهي التي تمتلك سلطاتها القانونية والتشريعية، ما معنى أن نربي أجيالنا على الحرام والحلال بدلاً من أن نعلمهم أن هناك قانوناً يحاسب على الصح والخطأ، وأن نعزز أفكار الأخلاق؟ ما معنى وجود خلاف بين التفكير والتكفير؟ بين الفكر والدين؟ بين الواقع والخيال؟ بين الشك الذي يوصلنا إلى اليقين والتسليم المطلق بالغيبي؟ بين التخلف والتطور؟ بين التقدم والتقهقر؟ ويحق لنا أن نسأل أين نحن من هذه الحياة الحية ووصول البشرية إلى سبعة مليارات وأكثر، وجميعها تتمسك بمفهوم المواطنة الذي يحقق لها استمرارها بالصح وتصحيح الخطأ؟

هل التفكير حرام خارج الأطر الفقهية؟ يجيبك سواد التابعين من الأمة بحسب فلسفة القطيع أجل، لأنه يأخذ بك إلى الكفر، والندرة يحللونه، لأنهم يعتقدون بقيادته للإيمان، ويأخذ بك للتفكر، ويدعوك لكي تكون نداً، وهذا ما يحث عليه الإنجيل الحق والقرآن المجيد بعيداً من المفتين  والمفسرين والرهبان.

ألست أنت أيها الإنسان تمثل جرماً صغيراً، فيك انضوت حوامل الجمال والجلال والحلال والحرام، وأنك تضم الأشياء كلها؛ البقاء والرحيل والخلود، والفناء والهدم والبناء؟ وصحيح أن الدين عالج بعض القضايا مثل الإيثار والزكاة والصدقة وإغاثة الملهوف، وحضَّ على منع التكبر، وسعى جاهداً لتطوير الأفعال الخيِّرة، وبثها في نفوس المسلمين، وحرّم الوأد للبنات وزواج المحارم، إلا أنه عجز عن تقديم الحلول لكثير من قضايا حرية الإنسان في المعتقد والدخول إلى الفلسفة الأخلاقية التي تحثُّ على المحاولة والتجربة والشك والإبداع الفني بصنوفه السبعة وحقوق المرأة ومساواتها أخلاقياً ومادياً مع الرجل أيضاً في العلم والعمل والإبداع والإنتاج، وهنا أكرر ما كتبته سابقاً عن الأول والثاني وأقصد الأخلاق والدين ومن أنتج من، ومعنى إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وأن اختيار الرسول العربي كان من خلال: وإنك لعلى خلق عظيم، ولم يقل: إنك لعلى دين عظيم.

هل أدركنا المعنى الجوهري للحياة ودورها المهم في إظهار التنوع الديني والوجودي الذي اعتبر الجميع مؤمنين، وأن كل واحد آمن بطريقته، وأثر ذلك في العلاقات الإنسانية ومهمتها في بناء وعي المجتمعات المتطورة التي أعطت للقيم الروحية حقها وللحياة حقوقها وأهدافها الأولى.

هل استطعنا أن نخوض في مفاهيم الذات الإلهية، وقاربنا عملية الروح، ودققنا في نظامي الجنة والنار، العقل والشهوة، واعتبرنا أنها جوهر الفلسفة؟ ولذلك أتى المفسر الإسلامي ليضعها في خانة الحرام.

ما يحرمه الدين الإسلامي محلل عند الأديان الأخرى، ولم أجد تحريماً عند الأديان الأخرى، لما حرمه الإسلام، والإسلام قدّم اليسر على العسر والأديان نهلت من معين واحد، إن الحلال والحرام وُجدا في الوعي الديني الذاتي الذي تحفزه العقيدة، بينما الصح والخطأ فكر أخلاقي عام يسعى إليه القانون بعد أن أدرك حجم النقص في الفكر الديني، فبادر لإتمامه عبر النصح والقانون العام الذي قدم للعاقل الإنساني دافعاً إياه لفهم الحياة والاشتغال لها.

حتى اللحظة فكرنا لم يصل إلى مفهوم القانون العام رغم خضوعه له، والتقصير مشترك بين الفرد والدولة، وأول ما ينبغي أن يدركه المرء معرفة ما له وما عليه، ومعه تتطور أفعال الصح، وتنخفض نسبة الخطيئة، وتنتهي كلمة حرام وقع في الخطيئة، ونقول حينها أخطأ ويستحق العقاب.

الحلال والحرام، الصح والخطأ، حاولت أن أقارب بينهما، علّنا نذهب جميعاً نحو الأفضل.

د. نبيل طعمة