الضمير المفقود

الضمير المفقود

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٤ سبتمبر ٢٠١٨

معلومٌ، يتداوله البشر، ينشئون حوله الأسئلة، مستيقظ نائم، غائب حاضر، حيٌّ ميت، نبحث عنه في داخلنا، ضمن مجتمعنا، ونتجه إلى إنشاء سؤال: هل هناك من مسؤول عنه وعن تعزيز أو فرط عقده ووجوده؟ وقبل هذا نسأل عن ضمير الأمة وأهمية مقوماتها وأركانها الخمسة؛ اللغة والثقافة والأرض والتاريخ والأيديولوجيا، المنتشرة بين أفرادها، دينية أو فكرة متبناة، وعن الإيمان في هذا أو تلك، وأضيف إليها السنن التي يجب ألا يحيد المنتمون إليها عنها، وتكون بالانتماء والأداء والولاء، فهل نعتبر أن أول مقوم وقبل كل هذا يكون الضمير الذي إن لم يحمله أفرادها تكن لا أمة.

نخرج من هذا ونقول: هل هو الله الرب المعتقد الديني، الأخلاق، المؤنّب أو المؤرق، أو المحاسب الذاتي، الذي يجري معنا الحوار المطور لوجودنا أو لتدميرنا، من دون أن يسمعنا أحد؟ كيف يلد في الفكر ويسكن الجوهر ويكون شريكاً أزلياً في اتخاذ القرارات الخيِّرة؟ أي إنه إن ظهر على  الإنسان من ذاته، أشار إليه الجميع بالبنان.

أتوقف هنيهةً لأقول: إذاً من المسؤول عن ارتكاب الخطيئة، الجنح والجرائم؟ هل هو المسؤول عن ردع كل ذلك وضبط الحركة الشريرة ومحاورتها؟ لأن دوره تهذيب الذات وشكمها لمصلحة الخير، من باب أنه يمثل أعلى سلطة تحكم العقل، وتوجهه نحو الأفعال الإنسانية، إلا أن سلطة الإغواء والإغراء والشهوات المادية والجنسية تسعى جاهدة لضرب هذا التحكم، فإن تمكنت من ذلك قادته إلى الانحدار وإفساد الذات التي تنشئ في الجوهر صراعاً دائماً، نستطيع أن نطلق عليه صراع الضمير مع أدوات الشرِّ ومساراته.

كلما اتسع العقل اتسع الكون، هل يعني الكون الضمير؟ الضمير لا يجاري العقل، العقل منفلت يحتاج إلى ضوابط، الضوابط يحكمها من؟ الضمير؟ إذاً كيف يكون الانفلات؟ ومنه أجد ما اختلف عليه الفلاسفة ومنهم نيتشه الذي ناقش مسألة الضمير، وفرويد القائل كلما تحكم المرء بعدوانيته اشتدت الميول للقيام بأفعالها، وأنا أقول: إن الضمير ظهر نقياً مع حضور الإنسان الأول المتأمل والباحث والمبدع لكامل نظم الحياة، وضع أسسها، وانتمى بعدها إلى الفكر اللاهوتي والكهنوتي بتنوعاته الدينية المقدسة التي تداخلت مع البشر، وأكثر من ذلك أعتبره ناظماً له ومسؤولاً عن قيادة النوازع الإنسانية الخيِّرة، ويتجلى ذلك بقوة حضوره مع تحول الإنسان إلى مادي، فوقف له بالمرصاد، بعد أن أخذت شراهته تتزايد بسرعة هائلة، مفسدة الكثير من ذاك البنيان الأخلاقي، وأشير طبعاً إلى الضمير الذي أخذ على عاتقه دائماً الهجوم على ظاهرة الفساد والمفسدين ومرتكبي الخطيئة، بدءاً من الذات، وهنا نراه متوافقاً مع المقدسات إلى حدٍّ ما، التي وعدت بالعذابات والإذلال في الحيوات الدنيوية والثانوية والأخروية، وصولاً إلى الآخرة، وأيضاً مع غير المقدس من الأفكار، رغم أنَّ لديها مؤمنين بها، فكان بذلك حارساً أميناً وحافظاً رئيساً لاستمرار الحياة، وأهمها جنسنا البشري الذي دخل عليها، وأخذ يعبث بموجوداتها.

هل يموت الضمير؟ مؤكد لا.. على الرغم من استخداماته الشائعة، يفقده المرء التائه عن الصح والغارق في الخطيئة، هل هناك من ضمير معافى وآخر مريض؟ هل هو الله المسكون في الجوهر؟ أو صوته الحرّ المحب الذي يحاورنا مع كل قرار وحركة وسكون نريد اتخاذه أو إجراءه؟ هل استطاع الضمير بعد كل هذا إيقاف أو لجم الشهوات ليس إلى مباهج الحياة، بل إلى شرورها؟ هل قدر على وقف العنف أو القتل أو منع الحروب أو الجشع أم إنه يريد استمرار كل ذلك من أجل تفوقه عليها؟ وهل الذي يقتل أو يسرق أو يغتصب متجرد عن الضمير؟ وبعد أن يرتكب كل ذلك أو بعضاً منه يظهر الندم الذي يطالب بالغفران والاستعداد بالاعتراف بما تمَّ ارتكابه، هل يكفي هذا للعودة إلى حياة طبيعية إنسانية؟

أين ضميرك صديقي؟ ونشير إلى أن هذا أو ذاك بلا ضمير، والضمير ذكر، ولا نخاطب النساء به، بل نسأل: ماذا تضمر في نفسك؟ فالذي تضمره تنبئ عنه تصرفاتك، ويصعب على الآخر الوقوف عليه، إلى أن يكتمل مشهدك، هنا يكون الضمير حالة فردية مثله مثل الطعام والشراب والجنس، فإذا عممنا كان المجتمع في حالة ضعف، وانتشرت معه الضغائن والفتن.

هل يمكننا وصف الخارجين من دين إلى دين بالكفرة والمارقين؟ أليس الآخر ديناً ولديه  المؤمنون به؟ وكذلك المؤمنون بالعلمانية أو بأي فكرة حداثوية، وأعمالهم كانت حسنة، وأخلاقهم حميدة، هل نعدّهم بلا ضمير وملحدين؟ وإذا كان الله يسكن جميع الأحياء وكل الأديان السماوية والوضعية القديمة منها والمستحدثة، وأول من آمن به، أدركت أنه موزع فيما بينها، ما يشير إلى أنَّ الله حاضر في أحيائه قبل وأثناء وبعد الأديان، وأيضاً قبل ومع وبعد الرسل، وهو الذي تدركه البصائر ولا تدركه الأبصار، إلا من خلال المحسوسات السبع؛ الحواس الخمس المادية، إضافة إلى حاستي العاقلة والناطقة اللاماديتين المختصتين بالضمير الذي يهرب من حامله عندما تظهر الرغبات العنيفة، وتحول إنسانها إلى عبدٍ لها، ما يسمح دونه السقوط في بحر الرغبات الفاتنة، ورويداً نراه ينتهي، بينما يكون الضمير متابعاً لسقوطه، وهنا تحضر مهام الفكر الإنقاذي المهم، الذي يقوم بدور المسؤول سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ودينياً، لا دينياً في إيقاظ الضمير، لأن الضمير لا يموت، وهو الحارس الأول والأخير في حياة المجتمعات، وأسُّ مهمٌّ في تنظيمها ورسم صورتها الأخلاقية والإنسانية وإحلال صنوف السعادة فيما بينها.

الضمير موجود أزلي كما هو الشرُّ أزلي، صراع مستمر يسكن العقل الإنساني، يتصارع ضمنه البشر، يبحثون فيه عن المنتصر، برأيكم من ينتصر؟ المنتصر ينتشي، والمنهزم يستدعي ضميره، يحاوره عن أسباب الانكسار.

كيف بنا نصل إلى هذه القناعة التي نفردها على مائدة الفكر من دون نوازع إلى الاختلاف، التي في حينها ندعوها إعادة إعمار الإنسان؟ لأننا تعلمنا عندما يغفو الضمير تثور الأحقاد في العقول، وتتعطل القيم، وتفقد حواسها، فتنشأ الأزمات، لذلك كان وجوده في العقل والقلب يعادل الروح، والفرق بينهما أنه يضعف ويقوي، يغيب ويحضر، فهو الدافع والإحساس بكل ما هو صح، ويعمل على تطويره داعياً الإنسان لتقويم ذاته وحضوره وأفعاله، ومراقبة الردود عليها، وصولاً إلى الإيثار المتبادل، وهذا ما يميز الإنسان عن الحيوان.

بعد كل هذا أصل لأقول: إنسانٌ بلا ضمير لا إنسان، ومجتمعٌ بلا ضمير لا عمل جيد وفرقةٌ مستمرة، إدارةٌ بلا ضمير المصير الفشل، أمةٌ بلا ضمير لا أمة.

د. نبيل طعمة