الخطوط الحمر

الخطوط الحمر

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢٢ أغسطس ٢٠١٧

إشكالية الهوية البشرية التي أوقعت وجودها فيها، وكمنت بين مجموعها الفكري ومقدسها القادم من الإله، عالم أعطى مساحات للتأمل وفرصاً للتعلم ومكاناتٍ للمعرفة والفهم، فإذا وصل الجميع إلى العلم والمعرفة فما حاله؟ ولنقس هذا على الإنتاج الذي إن أنتج الجميع فيه فمن سيستهلك؟ وإذا تدين الكل، وتشابهوا في الاعتقاد، فإلى أين سيصل؟ وحينما يصل جميعنا إلى الإيمان فما الحاجة للإلحاد والشكِّ والبحث عن اليقين؟
عالم لا يقدر أن يحيا بلغة واحدة، ولا بشكل أو منهج واحد، ولا بطبقة واحدة، فالضرورة تدعو إلى وجود الفقير والغني، وبينهما الوسط، ومن خلالها فرزت المجتمعات إلى عامة وهي السواد الأعظم، والخاصة وخاصة الخاصة، وبين هنا وهناك كانت الضرورة تدعو للاختلاف والالتقاء بعد الوصول إلى نفي النفي وظهور اليقين ونقيضه، والموالاة والمعارضة، اتفاق ونفاق، يمين ويسار، شمال وجنوب.
نصل إلى أنَّ الله فوض الحاكم في كل منحى، وجعله خليفته على الأرض، والحاكم تمسك بالإله، كي ينصره ولا يخذله، مادام فوضه بأن يكون صورته على الأرض؛ أي مادامت مستمرة، والفرق بينهما أن الأول يستمر روحياً أبدياً، والثاني ينتهي لأنه جسدي ذو عمر فني إنما يخلد بفعله، والاثنان تشاركا في منح الحياة والموت، الأول فطرياً وروحياً، والثاني وضعياً بقانون أو من دونه.
 من المعرفة والحكمة أتحدث إليكم قائلاً: حيثما يوجد الحديد يكن الصدأ، وفي أماكن وجود الذهب بألوانه يحدث القتل والاقتتال، وأينما يكن الماء يتوافر الكلأ الممثل للحياة، يتصارع الوجود الذي من دونه لا وجود. إذاً، أين تكون المعادلة؟ وكيف تتكون نتيجتها التي تؤدي إلى قيام الفعل المنتج الحقيقي للخط الأحمر القائم بين الله والحاكم، بين الحاكم والشعب، بين أفراد الشعب ومنتجهم؟
هذا الخط الذي يحضر علناً يُحدث التصادمات ومحاولات القفز عليه بحكم وجوده الدائم على بسط البحث وطاولات الاتفاق والاختلاف وتعجرف القوى الممسوكة من الأقوى التي تسعى بشكل دائم لهزم الأضعف.
متى يحدث الانتصار؟ سؤال أعتبره من خارج نظم الهزائم الكارثية الطبيعية المنسوبة إلى الله والاصطناعية التي ينجزها الأقوى البشري، وكلتاهما تحدث نتاج الوصول إلى قمة الفساد الخرافي القابع على طرفي الخط الأحمر، وهو مستعد دائماً للقيام بعملية انقضاض على بعضه، بداعي تخليصه من الفساد، والصراع مستمر، ولم تتعلم البشرية من مرارة الاندحارات، ولم تتعلم من هزائمها المستمرة، ولم تنتبه إلى استدرار دموعها على فقد الحياة والغموض الهائل الذي يصاحب الحياة والموت والعداوة المذهلة بينهما حول من يستوعب من، لأنَّ كليهما متربصٌ بالآخر، وهكذا إلى مالا نهاية.
ما ماهية الهوية البشرية؟ وثنية، دينية، ديالكتيكية، وجودية، علمانية، رأسمالية، اشتراكية، هل يعقل أنها حتى للحظةٍ لم تدرك أنها الإنسانية؟ أي خطوط حمراء تقف بينها وبين مسمياتها وتعاريفها؟ من يرسمها؟ قطبٌ واحدٌ أم أقطاب؟ إلهٌ واحدٌ أم آلهة؟ هل هناك من منارة للفضيلة؟ أم إن الفضيلة لا تجد من يدعمها بسبب سذاجتها وهشاشة أفكارها بحكم استنادها إلى العواطف والروحانيات؟ هل هناك من فرد منتصر عصامي ومجتهد من دون قيام نزاعات مع الآخرين؟ هل هناك ما يسمى الكرم الحاتمي والجود بلا حدود؟ أم إنها حالة خرافية يتعاطف معها الآخرون بحكم الفائدة والجوع وعدم احتكامها للمنطق؟ هل هناك نخب بلا نفوذ؟ وهل هناك نفوذ بلا فساد؟ هل هناك مال بلا خطيئة، وأعمال بلا خلافات، وأعمال بلا مخالفات، وطبقات مخملية حضرت إليها من فراغ؟ كيف يتعاون الفساد المادي مع الفساد اللامادي الذي يرسم من لحظة الوجود الإنساني الذي قام من نظرية الخير والشر واللغة المقدسة القائلة بالعدو والمتاع إلى حين "ليبلوكم أيكم أحسن عملاً" وكيف بهما يتجاوزان الخط الأحمر، أو يقفزان معاً، وفي لحظة واحدة عنه تارة تحت مسمى الديمقراطية وحيناً بالديكتاتورية، صفتان ملازمتان للحياة، ماضياً وحاضراً حتى إلى المستقبل، صراع دائم بين قوى التسلط على الحياة وقوى الدفاع عنها المتجسدة بالإله، الإنسان حامل الطبيعتين من خلال الكليِّ المهيمن الذي يدعو إلى الإبداع والوصول إلى الكمال، والإله الحاكم البشري المفوض على الأرض الذي يؤمن الأجوبة للبشرية الباحثة عن المأكل والملبس والمشرب والجمع واللمع من دون وازع أو رادع، ما يؤدي إلى الحروب والاقتتال والتوهان بحثاً عن هوية الوجود، أو هوية البقاء، ينتظر مرور الوقت، يحسب أيامه، كي يرى انتهاء القتل وتوقف هدير أدواته وتحرير الإنسان من جوعه  الذاتي، أو على أقله لجمه ضمنها، وإلا فإننا متجهون؛ أي المجموع البشري إلى فقدان الثقة بين البشر أولاً، وبينهم وبين الحاكم ثانياً، وبينهم أيضاً وبين الإله الذي يتجه الناس إليه لحظات الضعف، لا عندما يتمتعون بقواهم للتمسك به شكلاً لا مضموناً، وإن حدث وأن تمسكوا به يكن لهم ضمن الأنا المفرطة، ومن دون التعاون مع المجموع أو لمصلحته العامة.
فجوة الثقة تتسع مع اتساع البشرية نتاج الترسبات والتراكمات الحاصلة، الماضي والحديث والمستحدث على المسكون التاريخي وغياب مصادر الأمن والأمان والحماية الروحية والوجودية وحلول الخوف وتطوره بدلاً من الحبِّ والحرية أداتي الحياة الطبيعية.
خطوط حمراء تفرعت من خطّ واحدٍ فريد هو خطّ الشفق الفاصل بين الأبيض والأسود، قسمته البشرية وجعلته حدوداً بينها وحدوداً بين قيمها وإنسانيتها، بين دولها وأديانها ومذاهبها وطوائفها، خطوط حمراء أوجدتها للسيطرة على بعضها لإرهاب هذا البعض، واستباحة العنفوان والسيادة، وبها أوقفت الإنسانية على قدم واحدة، وأعطت منها الإشارات الخضر للتسلط على الشعوب والأمم وقنص مقدراتها، والمراقب يرى أن الأحمر أولاً وعلى الخطوط والحدود كافة.
أجل يحدث هذا مادام توافر بكثرة، ومنه نعلنها جهاراً نهاراً أننا نحن السوريين لنا خطوطنا الحمراء التي نرسمها من فكرنا، وبدمائنا نبنِّدها بأنَّ سيِّد الوطن خطٌّ أحمر، ومعه جيشنا الباسل حامي الحمى، وكل ذرة تراب لنا حرام على غيرنا، مبادئنا وقيمنا، تراثنا وأصالتنا، وحدة شعبنا بنسيجه وفسيفسائه، تعدده وتنوعه شكلنا.
إلى كل السوريين.. وأينما كنتم.. حتى أولئك الذين اختلفوا مع وطنهم وسيادته، وإلى أولئك الذين قاتلوه وانتسبوا إلى أعدائه، واستُخدموا أدواتٍ نقول لهم: أنتم سوريون، لن تخرجوا من جلدكم، الفرصة جدُّ مواتية لأن تعودوا إلى وطنكم، أمتكم، دولتكم، خطوطكم الحمراء التي تمنع التعدي على سيادة وعزة وكرامة جغرافيتكم التي نعتزُّ بها جميعنا نحن السوريين.
كيف بنا ندقق السيادة الأخلاقية القادمة من الرسائل الإنسانية؟ وهل تتحقق من دون تقديم خدمات للآخرين؟ فهذا لا يحصل إلا بعد الحصول على العلم الذي يُمتلك من أجل العمل، والعمل غايته النجاة من الحضيض وتقديم الجيد والمفيد لرحابة الحياة واتساعها. فمن يتمتع أو يسعَ للتمتع بالحياة فعليه إدراك أنَّ العمل هو غاية الحياة بعد امتلائه بحبها، حيث يشكل له ولمجتمعه القيمة المضافة التي تلغي الخطوط الحمراء، تحولها إلى خضراء. هيا للعمل وإعادة بناء ما تهدم وتجميل المشوَّه وتقديم الأفضل لوطن الحياة.

د. نبيل طعمة