البناء العربيّ

البناء العربيّ

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٦ ديسمبر ٢٠١٦

وصل إلى درجة الهشاشة، وغدا هشيماً يتقبل مستصغر الشرر، وبشكل خاص حضوره الإسلامي الذي أخذ يتناوله القاصي والداني، يتهمه بالإرهاب والتشدد، ويدعو إلى محاربته أينما وجد، فإذا تحدثنا وآمنا أن هناك حرباً على الإسلام، فهل اتجهنا للإجابة عن السؤال: لماذا هي كائنة عليه؟ والحقيقة التي ينبغي على جميعنا الاعتراف بها، أنَّ الواقع ضعيف نتاج مديريه الذين يصرون على وجودها، من دون القيام بأي محاولة للدفاع الإيجابي أمامها، وأيضاً نشهد انهياراً مرعباً في منظومة القومية العربية وفقدان المشاعر الوطنية، وضياع الانتماء الفطري للأوطان، وغزو العقول بمفاهيم ومصطلحات زائفة على الرغم من بريق حضورها وتعزيز الفساد وتعميمه على كامل مفاصل الحياة العربية وطبقاتها؛ اجتماعية اقتصادية سياسية دينية، يجري بشكل دائم ومن دون انتباه من هذه التكوينات التي تسمى العرب، ومفردها الشخصية العربية التي تدرسها مراكز الأبحاث العالمية بدقة، وتجهد ليل نهار لتخريب ضميرها وعقلها، وجعلها قادرة على بيع ذممها وقبولها للخيانة، وخروجها عن منظومة الأخلاق وتعاليم دينها السمح؛ أي العمل على إفسادها الذي يجري بحرفية فائقة، وأهمية المراد من هذا الاشتغال الحثيث هو ضرب الوعي الجديد الذي بدأ ينهض في أبناء هذه الأمة، ودعوته للانتفاض على الواقع المتخلف، وإسهاماته الكبرى في استمرار التخلف، وأكثر من ذلك إيصال الواقع العربي للقناعة بضرورة تدمير تكوينه بيديه، وهذا ما يجري عبر ست سنوات، لذلك نجدهم عاملين على منعه من امتلاك نواصي تطويره وتقدمه، مسارعين لبقاء الوعي التخلفي القديم المتعلق فقط بالروحي وأقسامه المختلفة بشكل دائم فيما بينها، وهذا يتم من خلال فصل الوعي التعلمي عن العلمي والإيماني والإنساني عن التدين الاجتماعي أولاً، ومن ثمَّ ضرب الوعي الوطني، وإزهاق روح المبادرة، في الوقت الذي ينبغي أن يخدم الوعي التعلمي والعلمي الوعي الوطني؛ أي مصالح الوطن من خلال ارتقائه والإيمان بحضوره قوياً عزيزاً منيعاً، لاحظوا معي أن جميع ما مرَّ بالعرب من نكبات وحروب واجتياحات وأزمات، كانت غايتها منع استنهاض الوعي الوطني، وأن ما نراه باقٍ وعامل على تعزيز الوعي الماضوي وزيادة التمسك به، من المسؤول عن ذلك؟ أليس ما يجري يشير مباشرة إلى تدمير فكرة القومية العربية؟ وبدلاً من العمل السريع لإعادة بنائها والتمسك بها وتفعيل حضورها، نرى استمراراً في خضوعها لعملية شرذمتها، لأنها تعني الجذر الخلاق للأمة العربية التي أنبتت ساقها، ومن ثم الدخول على عملية ضم فروعها بتهذيبها، والغاية الدائمة استمرار نموها، لكن الصراع البنيوي الموجود فيها يعتبر العامل الأساس في تدمير بنائها، ويظهر هذا الصراع بين مشروعي الإسلام والقومية، فكل واحد منهما يريد نخر الآخر، وهنا تكمن الطامة الكبرى، والظاهر أن المشروع الإسلاموي الإخواني ومنظومة الفكر الوهابي الظلامي التي سكنت الذاكرة المؤرقة يستمر مهيمناً من خلال إمبراطورية كبيرة سيطرت إلى حين، وتمزقت وتشتَّتتْ، وتفرقت، والمحاولات الإسلاموية تسعى إلى بعث الحلم في داخل كل مسلم، ولم تستطع كل التعاليم الحديثة والواقعية تخليصه منه، ليبقى الكفيل والمتكفل بضرب أي صيغة تقدمية أو وطنية، وهذا ما أفشل مشاريع الوحدة البسيطة والتضامن المؤقت والالتقاء القسري الذي لم يسفر عن أي نتائج.
دعونا نجرِ مقاربةً أو مقارنةً بين المشروع الإسلامي الإسلاموي والمشروع المسيحي. الأول يعتمد على التاريخ والأمجاد والأطلال والأحلام، لذلك نجده يفشل تحت أيّ مسمى لخلق كيان دولة مؤطرة به، ولذلك نجده يراوح في المكان. بينما المشروع الثاني قام على فكرة توطين الدين في جوهر الإنسان، ما أدى إلى تعزيز الفكرة المسيحية التي حملت في جوهر الإنسان وعملت لمصلحة بناء الدول المنتشرة فيها من دون الاهتمام بسياساتها وحراكها الاقتصادي والاجتماعي، وأكثر من ذلك دعمتها ودعّمتها، فهل استطعنا نحن أن يكون لنا نظرية، أم إننا نؤمن بنظريات الآخر من دون الإيمان بوجودنا.
خَرِبَ البناء العربي بسبب تأسيسه على المحرم الذي تعلق به وتمسكه بأناه المريضة التي تحتاج إلى جراحات علمية ونفسية دقيقة، فلم يدرك أبعاد الجمال المحلل، تمسك بالاجتناب وجعله أشد حرمةً، فلم يعرف النشوة، ولم يصل إليها ذكراً وأنثى، وإنما اعتلته لغة أريد وأريد التي لا تؤمن بالتوقف، ففقد بذلك التمتع بلغة الشهود، وكفر بوحدة المؤمنين المتجسدة في وحدة الوجود، وذهب مع عقل الأنا إلى تخريب الجمال بدلاً من صناعته والتأمل فيه، بغاية الإبداع أو إنجاز ما أو اختراع، العقل العربي سكنته منظومة الغزو والغنائم، ولم يقدر حتى اللحظة فهم أعدائه الحقيقيين، تذكروا معي، والذاكرة مستمرة أن هناك برامج إذاعية تبث -عنوانها «اعرف عدوك»- إلى فكره لأكثر من أربعة عقود، وأفلاماً وثائقية عن الصهيونية والإمبريالية والوهابية والمجازر والغزوات التي تعرض لها العقل العربي وهو في بنائه، وحتى يومنا هذا يبدو أنه لم يعرف من أعداؤه، بدليل استمرارنا في طرح مسائل اعرف عدوك، ولم نقدر أن نحدد على الرغم من كل القوانين الوضعية والروحية أن نصل إلى مفهوم العداوة وتعريفه كما هو حال الإرهاب وأسبابه، محلياً إقليمياً دولياً أممياً، والذي ننادي في طرحه على بساط البحث.
للأسف البناء العربي لم يستطع حتى اللحظة إنتاج كتّاب ومؤلفين وموسيقيين وشعراء ومعماريين وإبداعيين من الدرجات العليا، وإن من خرجهم خرَّبوا الذوق واللغة البصرية والعمل الجماعي الجمالي، ومازالوا يعملون عليها من خلال أفلام ودراما ورياضات، وجميعها هدفها الرئيس إضعاف الروح الكفاحية في الحياة، وقتل روح الشباب، جيلاً بعد جيل، وطرح نظريات وتطبيقها التعليم للجميع من دون علم أو تعلم؛ أي تحويل العقل العربي وبنائه إلى حالة وظيفية خدمية متدينة غير مؤمنة، مسيَّسة بثقافة القيل والقال والنقل والإضافة، بينما الآخر يبني في أجياله روح الكفاح، يدعوه للنشاط والحفاظ على البناء وتعزيز الجوهر بالحيوية الدائمة، وتوزيع الممتلك على مسافة الحياة، واعتماده على ذاته لا إنفاقه من أول مرحلة، وذهابه إلى تسوّلها بالدعاء والخنوع والعبودية والرجاء.
هل ندرك مما تقدم أننا في أزمة حقيقية؟ وهل نمسك بنواصي الأمور ونحن نخرج مما أغرقنا فيه الآخرون لسنوات من تحت ركام الدمار والتيه؟ أعتقد أنه آن الأوان للبدء بقوة العلم لبناء عربي جديد متين.
د. نبيل طعمة