عصر الانفلات

عصر الانفلات

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ٩ مارس ٢٠١٦

ساد فيه التجميل، وفقد منه الجمال، علا صوت التكاذب والمكر والخداع، كيف بنا نوصفه، ونحن جميعنا منغمس فيه، فهل نقدر على نقل الأحاسيس وما يعترينا، ويعتريه في حرية مطلقة.
من منا لم يشاغله هذا الحيِّز من الزمان الذي أطبق على المكان؛ بل جميع الأمكنة، وماذا فعل بالعقل الإنساني من الكليِّ إلى جميع العقول، أليس عجيباً أن تلتقي الدهشة مع الاستغراب؟ وهل تستوعب المجلدات للكتابة عنه، ونقل ما فيه إليها بدقة وأمانة؟ ما دور الخطيئة التي انتشرت ضمنه كوباء، لتتحول إلى واقع، والتي أضاعت فيه مساحات الاستمتاع في الحياة، أين الثورة الإنسانية التي تشهد اليوم أعتى هجوم عليها؟ أين صرخة الحياة في وجود الدمار والموت وسيلان الدماء؟ دعونا نبحث عن الرحمة التي فقدت في غياهب الظلمات، دعونا نعمل من أجل إنقاذها من بين أيادي أولئك الذين جفت في قلوبهم دماء الحياة، وغاب عن وجودهم ماؤها وحياؤها الجميل، دعونا نتجه لمحاربة جميع المرابين القاضمين لمجريات حياتنا.
ما الذي يحصل فيه ضعف هائل في العقائد الدينية، وانتشار سريع لمفاهيم الدنيوية، ولم تعد الأفكار تسمو إلى حضور الخالق؛ بل تاهت بين الخلق والمخلوق، وتساوت القمم مع الهاوية، وبدت صورة الجحيم جلية على الأرض، وأخذت البشرية تقتنع رويداً رويداً بأنه على الأرض، لا في ذاك العالم الأخير أو الثانوي أو الآخر. ألا يريع الإنسانية كل هذا التطاحن المعيب والتواطؤ الحقير ضمن الأوطان وعليها؟ ألا يعني لنا أنه يجري أيضاً على الحياة ذاتها؟ كيف يسرق الحب والتفاؤل والأمل من عيون وشفاه البسطاء، والذي يشكل لهم الخبز، يغذون صبرهم به، وأيضاً الأطفال الذين تستلب براءتهم، ويعبث بها أيّما عبث، فبتنا نرى الواقع على أنه هزل، والجد والخيال خرافة، نرمي بكل شيء على القدر، ننتظر المخلص من دون عمل، ونطالب بمعجزة المنقذ، وندعو أن يظهر المهدي المنتظر، كم نحتاج إلى علاج مشكلات الروح وعلاقتها بالنفس البشرية، بالعالم المادي، لم يعد في عالمنا الحاضر لغة تعشقها الجماهير، لم تعد تنتظرها كحضور هلال أو كإله، تتلهف لحديثه، كي ينفذ إلى قلوب الشعوب، يخترق سمعهم إلى عقولهم، الغني إلى جانب الفقير، والمتعلم والأميِّ، الكل غدا يبحث عن معجزة الخبز والملح، الكل أصبح متشوقاً للوصول إلى نشوة الحب والجنس، بما يحويانه من حرارة وعاطفة في لونها وحيويتها، جميعنا ينتظر تكبيرات الله من نواقيس أبراج السيد المسيح، ومآذن ترتل أجراسها أبانا الذي في السموات، من ذاك الذي يستطيع أن يوجد كل هذا، ويبني مئذنة الأجراس الهائلة، حتى تصل إلى عنان السماء، وتعود إلى أسماع الناس المتلهفة.
في عصر الانفلات، نجد أنَّ بعض الناس يصنع أقدار كل الناس، وأن يجد جلُّ البشرية أنفسهم ترزح تحت نير عبودية غير معرفة، ولم يشهد التاريخ لها مثيلاً، انحدار الفعل الجنسي إلى عصر المشاعية الأولى، فلم يعد الابن يعرف من أباه، وأخذ رجال الدين يحتمون تحت عباءات السياسة والمال، تاهت الأخلاق، حتى غدا أصحابها كالقابضين على حجر من النار، لذلك دقِّقوا معي، هل ترون أنَّ الحياة ضنينة علينا، وهي التي تمتلك كل الغنى؛ المال والحب والأمان، إنها ليست فقيرة، إلا أننا نمنع العدالة عنها فنفقرها، وفيما بيننا ومهما بلغت عدالة البشر، حتى وإن امتلكوا البصيرة، فكثيراً ما أفلت مجرمون من إسار العقاب، وأخذ بريء بجرائرهم، كيف بنا لا نرى ذلك؟ دعونا نبحث فيها، لنفهم ماهية تركيبها، وهل ينبغي أن ندفع ضريبة لها، ودماؤنا التي تنساب هدراً في ضرام معارك منفلتة لا أخلاقية، تصطاد جميعنا، هل طلقة رصاص، أم قذيفة، أم صاروخ عابر للقارات، كافية لتنهي كل الآمال وجميع التأملات والأحلام بحياة وجدانية، تسعى لتوفير الحياة للحياة قائلة: لا للموت المجاني، هل يمكن قتل الحياة، حينما يفقد الإنسان الحبَّ يلجأ إلى العقل، ويعاني البؤس في أبشع صوره، وعلى الرغم من وصولنا إلى مراتب مهمة على سلم العلم والإبداع والاختراع والبنيان، إلا أننا نراه في مجموعه يسخر من أجل زيادة الانفلات، إذاً ما الذي يجب فعله من البشرية، ما دام أنه وقع على الواقع هذا العصر، وفرض حضوره بقوة، هل تهرب إلى عوالم الخيال بعدما تحول الواقع إلى حالات لا تسرُّ أحداً، ولا تغريه، بحكم أنه امتلأ بالفجور والمغامرات اللاعاقلة، وانغمس في كل النقائض التي بدت شعاراته الحاضرة والقائمة على سمة التفجع الدائم والتحسر والدموع لأجل كيف كنا، وإلى أين صرنا الآن.
هل تعتقدون أن الحياة قامت من فلسفة الحروب والقتل من يقتل من، ماذا يعني لجميعنا هذا؟ هل نصمت؟ أليس هذا أصعب ما يجيب عنه الإنسان، أم إنه صرخة متألمة من أجل الحياة، نسعى إليها من باب إيماننا بأننا نستطيع تحمُّل جميع أنواع الحياة وتقلباتها بين السلم والحرب والمسالمة والمهادنة، واختلاف حضورنا فيها؛ بشر وإنسان وعبيد وحكام وآلهة، وأنَّ على جميعنا الاعتراف بأنه لا سعادة عامة؛ بل السعادة حالة شخصية، وإن لم تبدأ من الذات، فلن تلتقي مع أي سعادة.
إذاً لتكن هي الحياة، ومهما بلغنا من درجات انفلات، فإنَّ الدفاع عنها وعن وجودنا فيها، ينبغي أن يستمر وضمن أي ظرف، وأي عالم؛ شمال، جنوب، شرق، غرب، وعلى الرغم من أن المسؤولية عن هذا الانفلات المرعب، يتحمّلها الشمال والغرب الذي سرق الشرق، ورماه في متاهات لم يصل إلى بواباتها حتى اللحظة، نعود إلى سؤال أزلي، متى سيجدها كي يحقق الانضباط والولادة من أجل الحياة، ومفهومي الحياة والموت، وما دمنا سنموت عاجلاً أم آجلاً، فلماذا الحروب ومفرداتها انقلابات وثورات وخيانات، وجرائم تدمي أفئدة الإنسانية، وتثير روعها، ومعرفة الإنسان أنَّ حياته مقدرة، مهما بلغ من شأن؛ أي إنَّ فترته فيها قصيرة، فكيف به يسعى لقتل الآخر، أو سرقة حياته، ألا تتفقون معي رغم وجود النسيان، بأننا نحيا عصر الانفلات؟.
د.نبيل طعمة