الحبُّ والألم

الحبُّ والألم

افتتاحية الأزمنة

الجمعة، ١٢ فبراير ٢٠١٦

 يتحركان فيحركان الحضور الإنساني برمته، يطلقان عليه عيد الحبّ، أو عيد العشاق والعشق والحنين، حيث تثبت التجارب المدونة في سجلات الحياة المستمرة أنَّ الحبّ وحده قادر بقواه اللامادية التغلب على الحقد القاتل، بكونه يمتلك مصادر الإلهام التي تتفتح من حركات الحياة وتصارعاتها بين الحرب والسلم المسؤولين الرئيسين عن تشكل البؤس وانتشار الفقر وعلو كعب الحبّ للشهرة والجاه والسطوة والمال والمجد بدلاً من توءمته إنسانياً، وكل هذا لا يجسد الفلسفة المنطقية والواقعية للحبّ، لأن الحبّ في جوهره مخالف للطبيعة البشرية القادمة من الطبيعة الغابية، بحكم تجسيدها للشهوة التي تتطلع إليها الوجوه، والمتطابقة مع الأفعال الغريزية للجنس الحيواني، من أجل ذلك صنعوا له يوماً يحتفون به فيه، فقط لأن تداعيات هذا اليوم جميعها مؤلمة من باب انعكاسها على باقي الأيام، وبما أن عنواننا ضمن ثنائيته، فهو يحمل الهدف ذاته، حيث الأول يسعى للوصول إلى هدفه بأقل الخسائر، والثاني يريد الشفاء عاجلاً أم أجلاً، وكلاهما يتعلق بالأمل المسكون في الفكر الإنساني وحركته المتجولة بين الدين والدنيا، والحياة الأولى والحياة الآخرة التي لا تعني الأخيرة أبداً في جوهر وجودها، ولكم التفكر في تأويلها، ومنها يكون لدينا مفهوما الحيوات الثانوية والنهائية والاعتراف الأزلي، بأنَّ الموت هو الحقيقة الوحيدة التي يدركها الإنسان في حياته وحياة الآخرين من جنسه ومن الأجناس الأخرى، وبما أنني أبحث كثيراً في عملية توطين الحبّ ونجاحه في الجوهر، وفشله في المظهر، إن لم ينعكس عليه، ويحدث التعلق في اتجاهاته العمودية والأفقية؛ أي للكليّ وللمحيط من جنسه بجزأيه، وتمايزه عن الغريزة الشهوانية المتوافرة في لغة التملك والاستزادة وعدم الاكتفاء، لذلك تجدني أوائم بين الهوية والشخصية، بين الفضيلة والرذيلة، بين العقل والتطرف، بين الثقافة والمثاقفة، من باب أن الثقافة تمثل الروابط الاجتماعية المنسابة من العمق التاريخي للموروث الإيجابي، والمثاقفة هي القادم والمراد إدخاله على الثقافة؛ أي اختراقها بشكل يهدد القيم والمبادئ غير المتوافقة مع الشخصية الأصل.
ينبغي أن تكون جميع الأيام مثل هذا اليوم الجميل والمتكرر، الذي يحضر كل عام، يرسم الفرح والبسمات على وجوه الجميع؛ محبين وبائسين ويائسين، حيث يسمح لجميعنا مناقشة حضوره الاستثنائي، ويحقّ لنا أيضاً أن نطرح فيه قضايا متعددة حول عنوانه الواسع الموغل في القدم والمستمر إلى ما سيأتي من الزمن، وتعميمه كمصطلح يمتلئ وجوده بالآمال والأحلام والآلام والآثام، والكيفية التي تمّ بها استبدال الحبّ بالقتل للإنسان من أخيه الإنسان وتدمير كامل وجوده.
إننا نشهد اليوم حالة اغتصاب عنيفة، تمارس قسرياً على الحبّ وتغتاله، وبدلاً من أنها تنشر البسمات والقبلات والزهور الحمراء والبيضاء التي تمثل الحبّ والسلام، نرى الألم يعمم الكراهية والأحقاد والحواجز بين الإنسان والإنسان، نعم في هذا اليوم هرب الحبّ مهزوماً، وتربع في كبد السماء، ينظر إلى  الحدائق الموحشة والبساتين الخالية من العشاق، لم تعد الليالي تسمع دبيب المحبين، ولا همساتهم، وغدت الشفاه ميتةً بعد أن فقدت حلو رضابها، وحلت عليها أملاح عرق المتحاربين شاهري السيوف ضد أنفسهم، وغدا الصمت حزيناً، والهدوء صراخاً، لم يعد يحتاج إلى الذكريات الحالمة بالعشق والهيام بالحبّ المتألق، وصار الواقع المؤلم أقوى من أيّ لغة.
في عيد الحبّ نسأل عمن قتله، والذي يقتله مؤكد أنه لم يمتلكه يوماً، لأنه قتله في نفسه، وفي الوقت ذاته، قتل المكون الكليّ المتجول في جوهر ذاته، وهنا نقول: إنه يوم يستحق منا الرثاء، لماذا؟ لأنه يحضر متحضراً، تملؤه الآلام القادمة من أمراضه الفكرية التي تعذب الحبّ المتكون من الخير والشر والغيرية بالأنانية والرحمة والحنان والتضحية بالجور والاستبداد والقسوة، في عيد الحبّ يشهد جميعنا الجانب الوحشي الغريب عن الطبع الإنساني، نجده يسكن الفكر البشري، غايته إضعاف إنسانية الإنسان وإلحاق الشرور والأذى بما يحبه الإنسان ويهواه ضمن حالة من الإسراف التي تأخذ أشكالاً فظيعة ومروعة، غايتها تدمير فضائل الحبّ ومآثره ونصال العشاق حاملي التحدي الدائم لمصاعب الحياة وظروفها والباحثين دائماً عن الحبّ الذي حرم سواد شعبنا العربي منه؛ في شبابه ورجولته وكهولته، كما هي حال صباياه وإناثه وسيداته، حيث نجد أن هذا الشعب يحسّ دائماً بالوحشة والغربة والقلق والحرمان من مفردات الجمال وطلب الهجرة والتعب من أجل لقمة العيش، يستعطف الحياة كي تبقيَه على حاله من دون طموح لحبها وعشقها، فالحبّ سباق اجتياز الحواجز، والصعاب تعترضه كثيراً، فمن لا يهبْها، ويقبل على تجاوزها، تبهره النتائج.  
عجبي على حرفين، قد سلبا وقاراً؛ حاءٌ حريق، وباءٌ بتَّ في ناري، هو هكذا يوم نروم به حباً، ليته يدوم على كل الأيام، فيا أيها الناس، مالكم وما للحرب والاقتتال والعداوة والشقاء، تعالوا نسقط من الحرب حرف الراء، ولنلتقِ على كلمة سواء، لنعليَ الحبَّ، ولننبذْ من بيننا كل مظالم الماضي، ولنتجه للغة نختارها، لأنها تختارنا، الحبُّ والحبُّ وحده، ينقذ جميعنا من المأساة.
د. نبيل طعمة