الوطنية والحياد

الوطنية والحياد

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٩ يناير ٢٠١٦

وحدهما يخدمان السلم، ويعززان السلام، ولا يصل إليهما أي فرد أو مجتمع أو دولة إلا بعد أن يمتلك القوة الروحية، ويسيطر عليها، ويستقل مادياً، ويتجه بهذا الاستقلال للبناء والإعمار، ويتحرك في جميع الاتجاهات بالوعي والانتباه لحماية مبادئه وقيمه التي أسسها، ومن دون ذلك لن يحترم من أي أحد، وإذا فكر بالاعتداء سقط من الحياة، حتى وإن كانت قيامته على الآخرين ظاهرة، وهنا تظهر نظرية حق ضمان الأمن بالقوة العاقلة والمنطق الحكيم والحلم عند المصاعب بغاية تفكيكها بروية، ومن دون تسرع، لأن الانفعال يهدم، والهدوء يظهر مواطن الخلل، وهنا أشير إلى ضرورة التنبيه إلى أنَّ عنواننا لا يتجه أبداً إلى إضعاف النزعة البشرية للكفاح، أولاً من أجل البقاء والحماية. وثانياً للمشاركة في تعزيز الحضور بالعلم والإبداع والإنتاج. وأضيف هنا: إن هذا يكون بغاية لجم النزعة العدوانية المتوافرة ضمن البشر والساعية دائماً من لغة أريد في امتلاك الفرد لكل ما تراه عيناه، لأن الإنسان ابن الشهوة والاشتهاء للآخر والسيطرة على ما يملك، والعكس ينطبق تماماً على ذات العقل بدلاً من تطوير شعور الإرادة للبناء والتعاون وحماية الآخر الذي يستشعر بضرورة العودة لحماية الحامي.
إنَّ أي مجتمع يسعى للازدهار ينبغي عليه أن يقوم ببناء سلوكيات جيدة وصداقات حميمة، وسعيه الدائم يتجلى في مراقبة قيمة وقوة استقراره، وإذا تصرف ضمن هذا الشكل فمصيره النجاح، لأن التخلص من الكيدية والأنانية والاتجاه لزيادة الروابط الاجتماعية بتحديد الحدود العاقلة من الرفاهية وتأمين مستلزماتها، يؤدي إلى نمو الود الاجتماعي وزوال الفوارق الدينية والطبقية، وتتحول اللقاءات إلى غايات تنشد السعادة والأحاديث عن الإنتاج وتطوير البناء الذاتي للفرد الذي من خلال ذلك يمتلك القدرة على الاطلاع أكثر على ثقافات الآخر، وانتقال الأحاديث من النقد للآخر، أو تبادل النقد إلى الحديث بفرح عما عمل، وأنجز، وشاهد، ومارس، ومعه يتطور الوعي السياسي الذي يفرز بين ما يريد، وما لا يريد، فيدعم بهذا التطور نظامه السياسي ويدعم استقراره، ويدرك آليات اختيار فلسفته وإبداعاتها؛ أي يصبح معه الحق بعد أن يكون قد تخلى عن حالتي الخوف والعوز في التوجه لتعزيز البناء وحمايته، لماذا؟ لأنه وصل إلى حالة الأمان المنشود، وهنا ومن هذا المنظور تظهر الكراهية للحروب، وينمو شعور تلمس السلم باطّراد، لأنَّ الطبيعة الإنسانية تبحث عن السلام بشكل دائم، وتستعد للحرب في آن، بغاية حمايته، وتكافح بكل قواها الفقر والجوع والمرض، بعد أن ظهرت أمامها سبل حتمية التقدم إلى الأمام والأعلى، لا البقاء في مستنقعات الجهل التي تجلب للمنغمسين فيها التورط والدخول تحت أجنحة المعسكرات والأحلاف أو التكتلات، وهذه في عين ذاتها، لا تخدم في النتيجة قضاياها وتطلعاتها للانعتاق وامتلاك خيوط لعبة التحرر وقضايا السلم الأهلي الذي إن تحقق، ظهرت الدولة الوطنية، وسادت من وطنية أبنائها على وطنها.
لماذا يتصارع البشر وعلى ماذا ومع من؟ هلّا تفكرنا بذلك هذه اللغة العدوانية المنتشرة والعميقة، كيف سكنتنا؟ ما ماهية الخلاص منها؟ هل نقدر؟ هل نؤمن ولو لمرة واحدة أن الفكر التاريخي العميق أظهر الأديان، ومنحها قوة جلد البشرية اللاهثة خلف مستلزمات العيش وترك الحياة لممتلكيها بواقعية الفكر، وأودع لدى العامة أنظمة اللهاث خلف كل شيء، بدءاً من رغيف الخبز وصولاً إلى صعاب الأشياء المعرفة، أو غير المعرفة، وتم دفعهم إلى التعلق بالغيبي الذي وزعهم بين هنا وهناك، وهذا وذاك، وحمل لغة المقدس الذي منع العقل البشري من اختراقه؛ أي إن الإنسان الفكري المنطقي فرز عنه البشري، وتركه من دون تفكير، حتى وإن حَصّل بعضاً من العلوم، إلا أنه علمه بإرادته؛ أي حوله إلى إنسان بشري وظيفي، إنها فكرة تعميم التخلف بين المجتمعات البسيطة التي تخضع بشكل مباشر أو غير مباشر إلى المجتمعات القوية التي لا تقوم من دون بناء، أو الأخذ بالمفهوم العميق لعنواننا؛ أي الوطنية والحياد، ومن دون ذلك لا معنى للمطالبة بمفاهيم التحرر والحرية والديمقراطية، وتبقى شعارات خلابة وهمية التحقق، وهذا ما يحط من قدر المجتمعات التي لا تدرك قيمة وقوة الحياة، وتبقى متعلقة بالعيش من دون إمكانية الخلق والتخلق واستيعاب الموجودات، ومن ثمَّ التأمل الجدي فيها، واستنباط الاحتياجات الحركية من خلالها.
نحن أين من ظل تلك الصراعات والحروب والصلوات والأدعية، نريد من الكليِّ أن يهبنا أي شيء، وكل شيء، بدءاً من المطر وصولاً إلى خبزنا كفافنا، وأن يحقق لنا أحلامنا من دون الانخراط الجدي في عمليات التأمل والبحث العلمي والتقني والاجتماعي، والاتجاه إلى بناء ثقافة تعزيز البناء وحضور الشخصية مع أهمية وجوده بيننا، وفي أعماقنا، إلا أن المنطق يدعونا لفهم فلسفة وجوده وتحويله إلى دافعة للاشتغال للحياة، لا للتعلق فيه والاتكاء عليه في كل صغيرة وكبيرة.
الوطنية تتشكل من العلاقة الحيوية بين الوطن والمواطنة، وكما في الفكر الإنساني، كلما تحفز الحياد المنطقي الذي يحمي الحدود، ويعيد الروابط مع محيطها، نجد أن النجاح يتطور، ويتعمق، لتظهر معه الشخصية الثقافية والفكرية والسياسية، ويظهر الإبداع، وتغدو التقانة شعاراً في كل المحاور المنتجة، ويتحول التجمل والتجميل من وهمي إلى جمال حقيقي، يستمتع به الجميع.
لذلك خصصت عنواننا بما سرت تحته، والغاية التحضير منذ الآن للانتقال إلى المستقبل الذي يدعونا لرسم استراتيجيات منطقية وواقعية، فالعودة للماضي يعني وقوعنا في مطبات المستقبل، أما التعلّم مما جرى، وحصل، ومرَّ بنا، فيعني الاستفادة من كل ذلك الذي كشف الثغرات والهوات والمطبات التي أوقعتنا في أتونها، واكتوينا بنارها.
د. نبيل طعمة