الحداثة والتحديث

الحداثة والتحديث

افتتاحية الأزمنة

الجمعة، ١٨ ديسمبر ٢٠١٥

الإنسان جوهر الحياة ومحور حركتها، ومن دونه يفقد الوجود أسباب وجوده، فهو الشاغل والمشاغل لحركتها، ديمومتها، بنائها وانهدامها، لذلك نراه مندفعاً إلى الاستثمار فيها، بدءاً من الجنس وانتهاءً بالبناء وتجدده من خلال عمليات الولادة والوفاة، وسعيه الدائم لتحسين واقعه من الحسن إلى الأحسن، لذلك نجد أن فكرة عنواننا دراماتيكية الأحداث، تعصف بفكر الإنسان العربي وتناقضاته الواقعة بين شمولية المفهوم الديني والعلمي والإسلامي، السياسي أو المذهبي، والإسلامي التفسيري الذي انحصرت به، وعقلانية العلاقات المنطقية مع الرسالات السابقة عنه والمتقدمة عليه بدقة، وتخصص إنسانه بما يحمل، وعدم قبوله؛ أي الفكر العربي، للتطور البنيوي الذي لم يأخذ به حتى اللحظة، بحكم تجذره في العقل العربي وبقاء حركة الفكر مسطحة ومظهرية، من دون قبول للحذف أو التوسعة؛ أي إنه قَبِل الشكل، ومازال يحارب بالمضمون، والعكس أيضاً ينطبق عليه، من خلال أنه لم يدخل إلى عمق الرؤى الحداثوية ومستنداتها التي تؤدي عند المسك بخيوطها إلى إظهار طاقاتها المميزة ورؤاها الخلاقة ذات الدوافع الإيجابية نحو حياة جمالية، تدعو للاستفادة المثلى من جوهر الحياة الطبيعية وقوة مخلوقاتها ومنظوماتها، لتعود على المتجهين إليها بالفائدة الجماعية لا الفردية فقط، ومنه يتكون لدينا فكرة أن الذين يهابون الحداثة، أو يتجاهلونها، أو حتى يلبسونها فقط، أنشؤوا بينهم وبينها هوة كبيرة، وعندما تتجه إليهم تجدهم إما أنهم متمسكون جداً بنظرية ما مضى، أو متعلقون بأيديولوجيات سياسية أو اقتصادية، تملؤها الأنا. وبالتدقيق مع الذي حصل في أوروبا مبكراً، ومن ثم انتقل إلى أمريكا، حيث تم تأسيس مفاهيم قيامة العالم الجديد وطرحه بقوة، والارتكاز الرئيس على أسسه، نجد أن مشروع الحداثة يشكل الأساس لقيامته، ومن دونه لا يمكن الظهور على الحياة من جديد، أو إحداث أي عملية تطور أو تقدم، تمنح الإنسان الإغراء والإغواء، من أجل أن يستمر وينتج ويبدع ويتطلع إلى موجوداته وإبداعاته، ينتشي بها، ويتابع بفعل ما أنجز استمرار الإبداع والتمسك بمكونات الجمال وضروراته.
الحداثة والتحديث يمثلان الحياة، فإذا كانت الأولى نصف الحياة، ونصف الدين، ونصف الحب، وهي الانتقال الضروري من إلى، ومن ماضٍ يتلاشى إلى حاضر يستعد للمغادرة إلى المستقبل، فيكون التحديث ممثلاً للمتابعة وبقاء الصورة جميلة، ومعهما يتكون المنطق والعلم والفهم المتجدد؛ أي نصفها الآخر تحت مجهرها الذي ننضوي تحته، نعكس رؤانا من فوقه، بغاية فهم أين نحن؟ نسأل أنفسنا بمصارحات نوعية واستثنائية هل نحن وصلنا إلى الحداثة؟ نجيب ربما بعضنا وصل إليها شكلاً، وسوادنا الأعظم لا يعرف حتى الآن تعريفاً لها، فكيف بنا نناقشها معه، وبما أننا رضينا أن نكون مزيجاً من كل شيء؛ من التخلف والتحضر الوهمي، ومن الاعتقاد بأي شيء والاعتقاد، ومن التدين واللاتدين، ومن المظاهر الاجتماعية البراقة التي نمارسها بتخلف مرعب واللا مظاهر، وعيشنا في الواقع على أنه لهاث غايته الجمع من دون تحقيق أي لمع، والسبب الدائم يكمن في التمسك بصور الحداثة لا بجوهرها، والتي بقيت حتى الآن خارج إطار أدبيات المنطق العربي الذي يدعي مفكروه أنهم وصلوا إلى الحداثة، وهم في حقيقة الأمر دون ذلك بكثير، لأن الإنتاج الفكري العربي لم يقدر على نشر ما يريد، وبالتالي لم تؤمن به قواعده، وثمار أي فكر مفيد يمنح المجتمع قوة وملكية، ومن ثم ينعكس ليفيد الآخرين؛ أي يخرج مجتمعاته من التقوقع إلى التفاعل، ومن الانغلاق إلى الانفتاح، ومن العبودية إلى الانعتاق، ومن النقل والنقد والاعتراض إلى الإبداع، وهذا لا يحدث إلا بعد إجراء عملية كبرى نطلق عليها عملية التحديث التي تستند إلى ضرورة حذف البائد، أو توسعة الموجود، ومن ثم قبول إدخال المناسب الجيد والجديد وإحلاله في مكان المحذوف والعمل به مباشرة.
الحداثة والتحديث تتجه بشكل مباشر إلى غاية نعمل على تحقيقها، ألا وهي ترويض الطبيعة البشرية الشرسة وتحويلها إلى إنسانية، تعي قيمة الجمال، وتمسك بقواه المادية، تحولها إلى رؤى بصرية ناطقة، تخترق إنسانية الإنسان فيسعد بها، ترسم الدهشة والانبهار على الوجوه، يعود إلى ذاته، يقف أمام مرآته، يبدأ بتحديث شكله، وهذا مهم أولاً ليفهم في النتيجة أن جوهره بحاجة للتطوير، كي لا تبقى الصورة بلا رسام، وأيضاً كي نرى أن المظهر على أنه رخام، والجوهر عفن أو متآكل أو ممتلئ بالزور والبهتان، هي هكذا منظومة التحديث والتطوير ومفرداتها التي تتجمع تحت مسمى الحداثة، حيث تعني الدعوة لتطوير البنيوية الفكرية والحركية للمجتمعات، لا الاكتفاء بالمظهريات التي تغري ولا تدهش، ما يأخذ بنا إلى استنباط الحداثوي ودمجه مع أحدث منظومات الوعي، وتوحيدهما يعني بالمنطق قبول الدخول مباشرة إلى عمليات التطور في كل مناحي الحياة، وأهمها امتلاك مفردات علم الجمال، والتأمل الدقيق في فلسفات حضوره إلى اللغة البصرية التي بعد أن تصل إليه، تتجه مباشرة إلى اكتشاف مكامن الخطأ والضعف والقماءة، فتعمل على تهذيب وتشذيب المتطور، ما يدعو الآخر للتحديث، بأن هناك عملية تحديث تسير ضمن قواعد الحداثة. 
إن دعوة رجالات الفكر والمبشرين بالأخلاق ودعواتهم للعودة إليها والمتمتعين بالثقافة للقيام بثورات على التخلف والتبعية الفكرية والعلمية، والمطالبة ببناء مدنيات حديثة، تستند إلى مفاهيم الحرية المنطقية والعاقلة، لا على مستندات ماضوية أو حداثوية مستقبلة من الآخر، واستنهاض الشخصية العربية، يشجع على رسم الابتسامات وتحقيق السعادة التي تصنع السلام، وتوحد الإنسان مع الحياة، وبالتالي تفهمه، بأن وحدته مع الله تعني الله في داخله، وهو الذي يدفعه، كي يكون جميلاً ومعطاء وفاعلاً ومنفعلاً بوجود الآخر وبالتعاون معه. 
د. نبيل طعمة