توريث الهلع

توريث الهلع

افتتاحية الأزمنة

الخميس، ٣ ديسمبر ٢٠١٥

يظهر وكأنه حالة طبيعية، اختصت بها مجتمعاتنا العربية، ما أدى إلى تغييب العقل الإبداعي في شتى مناحي الحياة، والاتجاه إلى الأسلوب الوظيفي والتوظيفي للفكر، وأنه -لا أكثر ولا أقل- أدائي بحكم المسكون التاريخي المحدد لمساحات التطلع، طبعاً تؤثر فيه المنظومة الدينية، وسوطها المرعب المنتظر بين الحلال والحرام وعذابات القبر، وانطباقه على الجسد، ومكوثه في النار شياً وحرقاً، قبل دخوله الجنان، وانتقال هذا السوط إلى شرطي سياسي سكن العقل أيضاً، فأوقفه عن حرية التفكير والتعبير بالقلم، أو بالمشافهة، أو حتى منع العين الدقيقة من رؤية الواقع والبحث فيه عن مواطن الجمال وتطويرها، فكان عليه أن يرى كل شيء مشوهاً تحت مظلة الصمت المولد الرئيس للخطيئة التي رضيت بها هرميات دولنا، شريطة ألا تخرج إلى النور، وبذلك نرى الجميع يؤمن باللاعقلانية، وتسود الغرائبية التي ينظر إليها الآخر، فيسأل من أجل ماذا، ولماذا توجد هذه المجتمعات، بعد أن يشهد منها العنف وتطوره بل الإبداع فيه، والذي لا يمكن نسبه إلى أي منطق إنساني، وحتى غريزي أو عقائدي، والأنكى من كل ذلك منحه غطاء روحياً مقدساً وطهور قديسين آمنوا بتزوير الحقائق والتاريخ ومنجزات وظهور ذاك الإنسان القديم الذي ربطنا إليه، والاستسلام لتلك الأفكار التي يساعدها دائماً الهلع الذي يعمل للانقضاض على إنسانية الإنسان بشكل دائم، ومنه نجد أن أمتنا العربية والإسلامية بشكل خاص توارثت الرعب والهلع من بعضها بعضاً، وقبلت الهلع المسقط عليها الذي أدى بها لقبول التخلف والاستكانة إليه، والاعتماد على الآخر والاتكاء عليه.
إنساننا استبدل الإيمان بالحياة بلغة التدين المسؤول عن تحويل العبادات إلى عادات، ومن صوم الروح واللسان إلى مجالدات فهم منها الامتناع عن الطعام والشراب، واتجه إلى تحليل القتل معتبراً أن القتل حق شرعن العنف، وأجرم فيه شر إجرام، على الرغم من تحدثنا بأن القتل هو ضرورة الجوع عند الحيوان يدعوه إليها، فإذا شبع استكان، إلا عند الإنسان يقتل وهو شبعان، لا يرتوي من دماء أخيه، فمنذ قضية هند، وأكلها لكبد حمزة، وصولاً إلى حاضرنا الذي أظهر المظهر ذاته لحظة أن أكل إرهابي قلب جندي، فغدا المشهد اللاإنساني التكفيري ذاته هو السائد؛ الإيمان ضد الكفر، والكفر ضد الإيمان، علماً أن المقدس تحدث عن الكفر بأنه دين، والآية تقول: (لكم دينكم ولي دين) أدخل الهلع عنوة إلى العقل العربي، كيف نواجهه والحياة تسير إلى الأمام؟ كيف نتحرر من قيود الهلع؟ كيف نتخلص من الخوف الذي يؤدي إلى خمول الذاكرة؟ كيف ننعتق من الفشل المصطبغ مع صورتنا؟ هل نتجه إلى البحث الجدي في منظومة العدالة وتوليد الخلاص بعد أن نطور مفهوم الإخلاص وصولاً لإحلال الحريات الفكرية، وإظهار أدبيات الآداب بشكل واقعي وأخلاقي مع احترام مسارات التوجهات الدينية الإيمانية الواقعية المساعد الكبير لمسيرة الإنسان الحياتية، كيف بنا لا نعود للبحث عن التكامل بين الفلسفة والسياسة والدين من أجل صياغة أسس نوعية، تتخصص بمساراتها، كم نحن بحاجة أولاً وأخيراً للتخلص من الهلع والاتجاه إلى الجرأة الواقعية، وهذا يكون بتقدم الجميع إلى الأمام بعد تحرير القلم، والتوقف عن اتهام بعضنا بعضاً بالكفر والزندقة والإلحاد، وإضعاف الشعور الوطني أو الإخلال بالآداب العامة والخاصة.
الدهشة من الإبداع مطلوبة، إلا أن الهلع منه ومن صور الجمال، يؤدي إلى رفضه وتحويله إلى عنف لا يفيد بعده اللجوء إلى الإله، من أجل ماذا الاستغفار أو الاعتراف بالندامة؟ فنحن فقط نفعل ذلك، نحن نرجو الإله كي يرسل لنا المطر والخير والمال والعطاء، نصلي صلاة الاستسقاء، فتقوم السياسة بتفعيل نظام الاستمطار، نفعل ذلك من دون الإيمان بالاجتهاد القائل: «لكل مجتهد نصيب»، وإن المطر لا ينزل إلا بعد ظهور العرق على جباه المشتغلين المخلصين، حينما يتبخر فيهطل المطر خيراً لا رعباً، ولا هلعاً منه، هلا تأملنا قليلاً أن في عالم الشمال لا يصلون من أجل المطر، ولا يدعون كي يهطل، ولا يهلعون من عدم نزوله، هل يعرقل التغيير الحياة الإنسانية، إن كان نحو الأفضل، أم إنه يبدو غريباً، فنلجأ بالهلع منه إلى قتاله بكل قوانا، أي منطق أجوف يقف أمام ذلك، هل يستطيع كائن من كان من وسطنا العربي أن يتحدث عن مستقبل هذه الشخصية العربية أمام الفضاءات الافتراضية الهائلة التي تطرح حولها أن الفساد ذاتي المنشأ، ووجوده فيها نتاج ضعف تطبيق مفهوم العدالة، ولو بأشكاله البسيطة، إنها قضايا ساخنة، وحلولها بائنة، ما يظهر مباشرة أن هم العربي واحد فيما وجد عليه، ومستقبله المجهول أيضاً واحد، فالهلع من تفشي مشاعر الغبن والإحباط والسخط وانتشار البطالة وسواد الفقر وتمادي السياسة من خلال سياستها، وانتشار الأمية الدينية ودعمها المستمر لبقاء مريديها على ما هم عليه، وتطور صور ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، كل ذلك يؤدي إلى انتشار الإرهاب والقتل بدم بارد والتدمير من دون إدراك القيمة، ما يدمر فقدان الفرح والسعادة، تراه في عيون العربي الباحثة عن صيغة نعيد له وجوده وشخصيته أمام الآخر الذي راح ينظر إليه على أنه إرهابي، ومهما بلغ من شأن.
ممَّ نهلع؟ من الموروث الماضوي، من منتجات المفسرين، من الجحيم حيث لا جحيم، من الله مالك الحب، إنه هلع مستمر من الخطيئة التي نقوم بارتكابها بحق أنفسنا أولاً وأخيراً، فنرميها على الآخر، ونحمِّل الإله وجودها، كيف لا نقبل حذف الكثير من المسكون في عقولنا، كي نستطيع إحلال التوافق مع الآخر الذي أنجزه بقوة، وتمسك فيه، حيث لم يعد لديه أي هلع من الحياة، وامتلك أكبر قوة في داخله منحته الإيمان بالحياة، فراح يستمتع منها، ويشتغل لها من دون أي تفكير بما سيجري هنا أو هناك.
د.نبيل طعمة