فصل الدين عن الدولة

فصل الدين عن الدولة

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٢١ نوفمبر ٢٠١٥

منذ عشرات العقود، والبشرية المسكونة في عالم الجنوب، وبشكل خاص العالمان العربي والإسلامي، تبحث في المعاني والغايات التي أنتجت عنواننا، ولماذا جرى الأخذ به في عالم الشمال، ولم تدركه عوالمنا حتى اللحظة، وكثير ما أنجب عنواننا صراعات مربكة لحياتنا الروحية والمادية وخلافات فكرية وثقافية وسياسية وأسئلة كبيرة وصغيرة، تداولها جميعنا، وأحدث ومازال يحدث شروخات واتهامات لمجرد طرحه من هذا أو ذاك بالعلمانية التي يشار إليها بالإلحاد نتاج تسلط العملية الدينية واختراقها العميق لجوهر الشخصية الإسلامية بشكل خاص، والعربية بشكل عام. طبعاً السبب يدركه أهل العلم والفكر والثقافة والتاريخ والساسة المنخرطين في عملية التواصل العالمي، كما أنهم يتفهمون الضرورات التي دعت إلى حضور عملية كهذه لدى عوالم الغرب.
أما الذي دعاني لأكتب من جديد تحت هذا العنوان، وأدور حوله بالذات، حوارية جرت بيني وبين بروفيسور ألماني في مدرسة  Stadelschuleللفنون والعمارة في فرانكفورت، الذي فاجأني عندما كنت أحضر تخرج ابنتي وحصولها على درجة الماجستير في العمارة قائلاً: نحن في أوروبا لا نريد أن نعود لتحت مظلة السلطات الدينية، لا نريد أن نبيع عقولنا ومدنيتنا التي تعبنا عليها كثيراً بصكوك الغفران. استوعبت الموقف وقلت له مباشرة وبصراحة: ليس كل المسلمين, ومن ثمَّ سألته: لماذا تحدثني بهذا الشكل (في الليلة السابقة للقائنا جرت تفجيرات باريس) تابع معي: أنتم المسلمون بما تقومون به من أعمال إرهابية بحق أنفسكم أولاً، وبحق العالم أجمع ثانياً، تستنهضون الإرث الديني النائم في أحضان علمانيتنا، وتحت إشراف مؤسساتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وحتى الأمنية. تابع معي ستجد أن البركان الديني الأوروبي، بدأت تتحرك أبخرته، وأخذت الصيحات تعلو، وصحيح أنها بطيئة، إلا أنها إذا انفلتت، فلن تقدروا على الوقوف أمامها، وخاصة أن زمن الخيل والسيف ولى، وحل مكانه تكنولوجيا مذهلة. أنا كمعماري أدرس في عدة جامعات من واشنطن إلى فيينا إلى لندن إلى هنا, فلسفتي تقوم على بناء الجمال للإنسانية على هذه الأرض، وابنتك التي تفرح بها الآن، تنحو نحوي، وكثير مثلنا من الراغبين في إنجاز التطوير وتقديم الأفضل والأجمل يعملون على هذه المحاور.
اعذرني أننا ننظر إليكم الآن، وكأنكم نحن، مع فارق عدة قرون، حيث كنا ضمن الهمجيات الدينية التي قادتنا إلى حروب جوفاء، ذهب خلالها ملايين الضحايا بعد أن قمنا من تلك الظلمات عبر إصلاحات دينية جريئة قبلت تطوير الفكر الديني بشكل مذهل، قادها المفكرون والفلاسفة والعلماء، واستفاد منها الساسة، فتقدمنا لتحقيق إنجازات في الحداثة مستندة إلى مفاهيم الحرية والديمقراطية وأسس قانونية متينة، ما أدى إلى تطور الكل لدرجة استوعب الناس فيها أن مال قيصر لقيصر، ومال الله لله، ومال الناس للناس، هنا أتوقف معك لأستمع منك إلى أين أنتم ذاهبون.
تأكد أن لدينا من المتنورين والإبداعيين والمؤمنين بالتطور أكثر مما تتخيل، وعودة الظواهر التي مررتم بها منذ عقود وقرون، وارتكاب ذات الأفعال التي تشمل العنف واستباحة هدر الأرواح وتدمير الممتلكات وانتشار الفوضى والإرهاب وممارساته البشعة، ومحاولات إخضاع المجتمعات للسطوة الدينية، لها أسباب متعددة، وبصراحة أعتقد أن لساستكم اليد الطولى في إظهار ما جرى ويجري الآن على ساحاتنا وانعكاسه على ساحاتكم. إننا نخاف، ونحب مثلكم، فالمشتركات البشرية لا يمكن فصلها عن بعضها، فالكل يحلم بالبناء والجمال والاستقرار، كما أنَّ ممارسي الشر والإرهاب يحلمون في النهاية بالحلم ذاته. السارق من أجل ماذا يسرق، والقاتل من أجل ماذا يقتل. لقد رعت ألمانيا الإخوان المسلمين، ولندن عززت وجود المتشددين، وفي باريس مدارس المتدينين، أميركا أنشأت القاعدة وأدارتها. الجميع بمن فيهم نحن ربينا الشيطان على موائدنا، والمنطق يتحدث أنّ الذي يربي الشيطان ويغذيه، فعليه أن يتحمل أذاه. إذاً جميعنا مسؤول عن هذا الانفلات العالمي الذي يتحمل المجتمع الإسلامي أذاه بشكل خاص، كما أن إصرار عالمكم على تعزيز التخلف المفيد لكم في مجتمعاتنا، يؤدي بين الحين والآخر إلى إحداث الأذى، هل أستطيع أن أقول: إنَّ جميع الأوروبيين سيِّئون؟ طبعاً لا، لأنني أكون قد خرجت عن المنطق، فالتعميم خطيئة كبرى، وصباح اليوم قرأت في صحيفة إيطالية(اليبيرو) على الصفحة الأولى أن المسلمين أوباش. برأيك ألا يصب هذا الزيت على النار بهذا التعميم؟ ألا تعتقد أن هناك عملية خداع فكري كبرى تقوم بها السياسة العالمية من أجل إبقاء ما هو قائم على حاله.
أنا أؤمن بأنك إنسان، ولولا هذا الإيمان، ما كنت لأكون هنا. إذاً فلنخصص الحالات التي تجري من فرديات أو مجموعات، تقوم بأعمال إرهابية هنا أو هناك، ولنبحث بدقة عن الأسباب والمسببات والدوافع والجهات الدافعة، والمرور والعبور، والمنشأ والنتائج، ومن يستفيد منها، ومن الضروري بمكان أن يكون هناك تعاون نوعي، كي لا يحدث مثل الذي حدث. لتعلم أن بلادي تعاني من هذا الإرهاب العنيف، ولم يحاسب أحد دول المرور والعبور التي فتحت حدودها بقصد إحداث التغيير القسري الذي ترفضه مبادئ الأمم المتحدة وقوانين احترام الدول، وأخذ الإرهاب الممارس على دولتنا أشكالاً دينية، لم نشهدها في تاريخنا المعاصر.
أتفق معك حول ضرورات فصل الدين عن الدولة. شكرته على ما يقوم به، صمت قليلاً ثم قال لي: أعتذر منك على ما عممته، حيث إنك لفتَّ نظري إلى قضايا مهمة، وأنا بدوري تابعت: إن على نظامنا السياسي والفكري فصل الدين عن الدولة، ما يحفظ كرامة الدين والدولة المحورين المؤسسين لكرامة المواطن. دعوته للعشاء، وذهبنا جميعنا, تبادلنا نخب الإنسانية والمحبة بعيداً عن كل الصراعات.
د.نبيل طعمة