الكلُّ واحد

الكلُّ واحد

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٣١ أكتوبر ٢٠١٥

كيف لا نكون ضمن هذا العنوان الذي يوحدنا في وطن، حيث لا واحد ولا كلّ من دونه؟ كما أنه لا يمكن لكائن من كان أن يشتريه، ولا أن يقوم بتفصيله على مقاسه، ولا فصله عن بعضه، أو تجزئة وجوده، إنه كما بيوت الله، هي لله، ويمكن لأيّ مواطن ألا يدخلها، أو يدخلها، أما الوطن، فهو لجميع مواطنيه، ولكل مواطن له منه نصيب، لا يستغني عنه، حتى وإن أراد، لأنه يتعاكس مع الإرادة، أي إنه البداية والنهاية، الحضور والمصير، فإذا كان هناك من يعتقد غير ذلك، فمؤكد أنه خارج عن معادلة الفهم التاريخي لبناء الأوطان، ومن ثمَّ لم تدلنا الأحداث، على أنَّ هناك أحداً اشترى وطناً، أو باعه باستثناء تلك الاغتصابات أو الاعتداءات التي حصلت على بعض من الأوطان، أو احتلالات تقوم بها دول لدول، ومهما طالت تنتهِ بانتصار الأوطان، أو خيانات وتنازلات، فمن يتخيل أنه يمكن له فعل ذلك، فهو منفصل عن المنطق العاقل، أو أنه يحيا أوهاماً لا جدوى منها، وهذا هو وطننا التاريخي الموغل في قدم حدوثه وظهوره على وجه الأرض، ورغم مرور الاحتلالات والغزوات ووقوعه تحت الانتداب ومحاولات تصغيره عبر شتى الوسائل إلى دويلات، إلا أنَّ جميعها أفشلها مواطنوه المؤمنون به، ومحاولاتهم  استخدام كل أساليب التتريك والفرنسة، وبينهما رمي الفتن من خلال الترغيب والترهيب واللعب على الأطياف الدينية والإثنية (طوشة النصارى) في عموم الوطن، والتي انتقلت إليها من الجوار بتخطيط خبيث، لم يقصد طائفة بعينها، بل كانت غايته إشعال الوطن برمته، وإحراق جميعه، إلا أن كل ذلك كان أصغر بكثير من الإيمان العميق بنقاء الثرى، وصفاء السماء، والتعلق بينهما الذي أرى جميع مواطنيه قيمة ما يمتلكون، فآثروا التمسك الدائم به.
الوطن للجميع، نحن من نغادره، نخرج عنه، أو ننزل إلى ما تحت ثراه، ليضمنا نهاية بعد أن سرنا عليه، ومهما عبثنا بوجوده، إلا أنه يبقى ضمن متلازمة وجودنا الأزلي، قد نختلف فيما بيننا، وتنقسم آراؤنا حول وجودنا معاً عليه، من خلال ما نعتقد، أو نمثل، أو نجسد من رؤى خاصة بالفردية  بنا أو قادمة من غيرنا، إلا أنه من غير المسموح إحداث معارك لا أخلاقية فيما بيننا، وعلى أرضه، اللا عقلانية تفترض نقل اختلافات الخارج المحيط بالوطن القريب منه والبعيد عنه إلى داخله، وإثارة النعرات وإحداث المعارك ضمنه، فإشعال النيران عليه، يعني أنها ستأخذ بالجميع، إن لم يعمل على إخمادها كل من يحيا عليه، ومهما كانت معتقدات أبنائه، وتباينت آراؤهم السياسية، فطبيعة الحياة قامت على الاختلاف، شريطة ألا يتحول الاختلاف إلى تشدد واستئثار، فكيف بنا ننادي بالحرية والديمقراطية، ونتمسك بالوجه  الديني الإرهابي، يحمله بعضنا، وينادي بزوال الآخر المَكَوَّن والمتكون من وعلى جغرافية وطن، هل تلك المصطلحات التي أطلقت ضمن التاريخي الحداثي للدول والأمم، تحمل وجهاً طائفياً أو انفصالياً أو تفصيلياً، أو مقاسات تحدد على هذا أو ذاك، أو أنه لهذا أو لذاك، إنه لجميعنا، وعلى جميعنا العودة للإيمان بقوة مقتضياته، على جميعنا العودة سريعاً لطاولة الوطن، ولنبحث بصراحة وجرأة عن الأسباب التي خلخلت وجودنا، وأخلت بالمصداقية فيما بيننا، ولماذا غابت أو غيبت لغة المحبة وروح التسامح، وشاعت روح الكراهية، ونمت الأحقاد بسرعة مرعبة، حتى لم يعد أحد يصدق الذي جرى، ويجري على ساحات الوطن، وبين أبنائه؟!
 إن الأديان واعتناقها، والأفكار وتقلدها حق للجميع، شريطة أن تكون صادقة لا مناقضة، من الممكن جداً أن يَفسُدَ المواطنون، وأن ينقسموا، ويتشرذموا بين هنا وهناك، ولكن لا يمكن أبداً أن يَفْسُدَ الوطن، فالوطن.. تذهب أجيال وتحضر، وتدمره حروب وينهض، وتمرُّ به الكوارث الطبيعية وينجو منها، مهما بلغت حدودها، نسأل لماذا يبقى؟ لأن مواطنه الحقيقي المؤمن به والمنتمي بقوة شرفه إليه، يبقى قادراً على إعادة حضوره، لماذا مرة ثانية؟ لأنه روح إنسانه الحقيقي، والإنسان لا يمكن أن يحيا من دون روح، ومن يعمل على إخماد حضورها، يكن كمن يقتل الروح، ويدنس قداسة الحياة الإنسانية، فسكن الروح في الجسد يتكامل مع سكن المواطن في وطن يخصه، يتبادلان معاً الحضانة والرعاية وحب البقاء.
أيها الناس إنه وطننا ضميرنا الحي، والحي لا يموت، لأنه حبنا وعشقنا؛ فهل فسد ضميرنا؟ الضمير لا يفسد، نحن نفسده، الضمير لا يموت، لأن الضمير وطن؛ فهل ندرك ما نفعله نحن؟ ونحن نتقاتل بلا هوادة، نتنازع عليه بفظاظة، نريده أبعاداً ومقاييس، نحاول أن نفصِّله على مقاساتنا، إلى أين نحن ذاهبون؟ ألا يستدعينا هذا الوطن الجميل، لنقف إلى جانبه معاً، ونعيد له ألقه الذي ينعكس على وجود جميعنا؟
كلنا واحد، هكذا نبتنا من ذاك الزمن الذي توارثناه، عشنا معاً وتكاملنا، مرت ظروف مؤلمة، وكما تحدثت في مقدمة عنواننا، إلا أننا كنا دائماً الأفضل من بين محيطنا، كنا ومازلنا وسنبقى نؤمن بهذا الوطن، مهما افترقنا واقترفنا بحقه بعيداً أو قريباً، إلا أنه يبقى لنا، لجميعنا، هيا بنا لنعود إليه، من أجله، ومن أجل القادمين بعدنا، تعالوا نلتقِ على كلمة سواء، نسامح، ونتسامح، ونطلب منه السمح ومن بعضنا، فنحن بعد هذه العذابات المريرة، نصرُّ على أن نقول لبعضنا: كفى ولنتجه إليه.
د. نبيل طعمة