كنّا و مازلنا

كنّا و مازلنا

افتتاحية الأزمنة

السبت، ١٥ أغسطس ٢٠١٥

وسنبقى متمسكين بسين التأكيد لا سين التسويف، وبفلسفة نكون رافضين الجزء الثاني من معادلة لا نكون، إلى أن يحضر البدّ الذي لا بدَّ منه بمعرفتنا، أو من دونها، نزعم ونتمسك بأننا أقوى من أي موت، ينتظرنا هنا أو هناك، وعلى استعداد لنغالب الأمراض، مهما كان نوعها، إذا حضرت، ورغم أن نزعتنا الفكرية مقترنة بغرابة أطوارنا التي تدغدغ مشاعرنا، فترينا مسارات السياسة والاقتصاد والأدب والشعر والفلسفة، وطموحات لا حدود لها في التكوين الأسروي؛ الزوجة، الأبناء، الأحفاد، الأهل، الأصدقاء، في الحب والعشق والهيام، وممارسة الفضيلة والرذيلة، والإسراف الفاضح في الحياة، والتمسك بأي جميل يتحرك في سياقها، والذي لا يمكن لنا أن نقاوم كلَّ ذلك طويلاً، لأن الذي نتمسك به كثيراً يسكن في كرامة الحياة وسيادتنا عليها، لا عبودية ولا استعباد لها، ولا من بين بعضنا، حيث بدأنا نقصد بعضاً منه، بحكم التعليلات العقلية المسكونة بين جنبات النسمات العاصفة، الزاخرة بإرهاصاتها التي يعمل على سحبها دعاة السوء باذرو مفردات الشقاق والنفاق في الحب والاستقرار، ولكي نكون، علينا فهم منظومة الشر الذي لا يمكن له أن ينتصر إلا عندما يتخاذل الرجال الخيّرون المؤمنون المدافعون عن أفكار التمسك بالحياة بالبقاء.
كنا وما زلنا نذكر ونتذاكر ونتعاطى تلك النشوات القديمة الجديدة، وكم أنها حافلة بالإشراق السعيد على جميعنا، لنسأل أنفسنا؛ هل في اعتقادكم يهرب أمل من محب عاشق للحياة؟ هل ينهزم كائن متكون أمام كبرياء السماء التي تخدعنا بزرقتها الرائعة، أو حتى حين تحملها الغيوم بيضاء كانت أم ركامية سوداء، لحظة أن تتكئ عليها، أم إنها تنهمر سريعاً، فيبقى حضورها الأقوى. دعونا من كل هذا، تعالوا نتفكر في الرغبات والتلذذ بمرور الأحلام، مهما كانت سيئة أم إيجابية، فالقلوب لا تحيا إلا من أجل الحب، وتموت في الضغينة، تطلب من حامليها أن يكونوا من أجلها محاربين أشداء، لا تغمض لهم أعين، لا يشتكون من التعب، يُصلون دائماً من أجل ألا تدمى القلوب، وأيضاً إيقاف تدفق الدموع الحارة، من منا يستطيع تفسير البعض أو الكلّ من النظرات الحالمة، وأن يحرك الصمت، ويجعل السكوت يتكلم بفصاحة، وأن يبرر الأعمال القبيحة، مثلما يريد من ذاك القادر على التكلم بلغة الآخر، من دون أن يتلعثم، وهو يفتش عن العبارات المعبرة عن الشكوك والمخاوف صاحب الرعب أمام الآخر، نريد أن نعرف شيئاً عن حياتنا بواقعية، قبل أن نبحث في حياة الآخرين، كي نعرف عنهم شيئاً يفيدنا، والعكس صحيح، ويغني المشهد الذي نكون عليه، كما هم كائنون، ونريد نحن أن نكون عليه، لذلك ينبغي اللجوء دائماً إلى الحب، لأنه وحده يوصلنا إلى ما نريد، فأي حب هو حب، لا علاقة بينه وبين الحلال أو الحرام، وكل من يحاربه، إما هو مريض نفسي، لم يذق نكهته، وإما خارج على قوانين الطبيعة وعدم قبول الآخر، متفقاً أو مختلفاً معه، يشكل الطريق إلى الكراهية والتحريض ضد الآخر، فالكراهية تجسد الحاضنة الرئيسة للإرهاب والحروب، والتقسيم والتفرقة، ولمجرد أن تستسلم لها مرة واحدة، تغدو عادة، ويصبح الاستسلام سهلاً أمام أي شيء.
طغيان الشهوة المحمومة على أي شخصية، يجرفها من مسار الحافز والعمل لأجله إلى السير خلف الشيطان الذي ينهب الوقت، ويرميه بين الخطيئة والخيال، ويغرقه في العزلة والقنوط، لنغدو بعدها أثراً بعد عين، وينبغي ألا نسعى إلى ذلك، فإذا أردنا أن نضع حداً لهذا التخبط المضحك، فعلينا أن ندرك تماماً، أن الفعل الإلهي يريد من ذلك أن يحدث، لأن العدالة ومهما بلغت، فلن تجرؤ في تنفيذ أحكامها على المشيئة الكلية، فالمظلة الحياتية القائمة اجتماعياً، تفترض قضاءً علوياً ممتزجاً بقرارات دنيوية، لأننا نحيا في عصر اضطهاد مادي حول الثقافي إلى حالة توحش مؤلمة، وغلل فكري قاتل، إلا أن الاعتقاد الدائم بحضور تعويضات إصلاحية، يقوم بها الفكر المتأمل مشروعة، وعلينا الثقة به، لأن فيه يسكن المنقذ إلى جانب المهلك، في رحلة صراع أزلي بينهما، قد يتورط الفكر في هفوات تأخذ به إلى الانحراف، أو حتى الجنون، أو الخروج من صفوف الركب السافر إلى الأمام المسافر عائداً إلى المجهول، حيث يضطرب القوي العارفُ، يتلعثم المغوار الفاعل للاختراق بجسده، لا يدري بماذا عليه أن يتحدث أمام هول الأحداث، وهو الذي لا يعرف أبداً الخوف، بل يشعر بأن واجبه الدائم أن يمنح الطمأنينة، ويهب السكينة للدائرين في فلكه، يعترف بأن الأخطاء المرتكبة هينة لينة، يرميها على المسامع قائلاً بأنها ليست ذات أهمية، وهي حالة بشرية ضمن إرادة كلية تحصل، يدعو من خلالها دائماً للاتجاه نحو النصر الذي يدفعه للمجازفة.
كنا ومازلنا وسنبقى سوريي الهواء والماء والتراب، نحيا تحت سمائنا، زرقاءَ صافيةً كانت، أم مغبرةً حمراء، ومهما ارتسم على وجهها الذي نراه، ونتأمله من حروب، تشكلها غيومها الركامية، أو وجوه شريرة أو خيرة، فنحن متمسكون بها، ومهما فعلنا لبعضنا قتلاً وتجريحاً أو نهباً، إلا أننا نبقى سوريين، فقدرنا يحمل هذا القرار الأزلي، أي مما مضى، وإلى ما سيأتي، مهما ابتعدنا أو اقتربنا، ومهما صنعنا الحواجز، أو صُنعت فيما بيننا، إلا أنها زائلة، هي طبيعتنا البشرية، تعتلينا لبرهة، سرعان ما يعود جميعنا إلى إنسانيته، فندرك أنَّ لا حياة لنا إلا هنا، مع بعضنا، ضمن إرادة واحدة، يجب ألا نتخلى عنها، وهي نكون.. كي نكون.
د. نبيل طعمة