شيطنة الواقع

شيطنة الواقع

افتتاحية الأزمنة

السبت، ١ أغسطس ٢٠١٥

في الحقيقة التاريخ لا يقول وداعاً، بل يقول أراكم لا حقاً، ومعه يكون الوعي في العقول، وليس في الأعمار، الأعمار عداد سيرك إلى الأمام، لا عودة إلى الخلف، والعقول مركز حصادك وفهمك لعمرك الزمني، الذي يأخذ بك إلى مشاهدة الأمر الواقع، الذي يشار إليه لحظة أن نتأمل فيه، فنلحظ المساحة المتبقية من انتهاء الحياة المقدّرة علينا، والتحول إلى دورة الرحيل؛ الخلود والنسيان، فنحن أقرب ما نكون للوصول إلى عصر الحيوان؛ أي إلى المجتمعات الغابية، على الرغم مما وصلنا إليه علمياً، واستوعبنا أكثر الحالة الروحية، فأخذنا باللعب على حبالها، وقوة تحكمنا فيها، بينما تناسينا قدرة سيطرتنا على شهواتنا، فغدا إنسان زمننا بلا رحمة، وأقل مودةً وعطفاً، وتخلينا عن مفاهيم الشهامة والمروءة، وأصبحنا متلونين بألوان الأنا، وعندما ندقق في مسيرنا، نسأل: هل نحن نتقدم فعلياً، أم إننا نتراجع؟ فأي تصميم مهما بلغ من النجاح، تملؤه العيوب، والعين العقلية لا ترى إلا الخطأ، والذي يربِّي الشيطان، لا بدَّ أن يقفز أمامه، وعليه تحمل أذاه، فالأسس الأخلاقية لا يمكن لها أن تأخذ حضورها، إلا إذا استندت إلى الاعتقاد بوجود نظام أسمى من النظام الدنيوي والتشبث بالمبادئ والقيم الجمالية الطبيعية للطبيعة البشرية التي جبل عليها الإنسان.
الشعور العميق بالحزن والألم لا تشعر به، إن لم تحيَه، فلا فائدة من الحديث عن كل تلك الأشياء، لأنَّ كلَّ ما تفعله يشير عليك مباشرةً، أنَّ لا علاقة لك معه، التهدئة تبدأ في إطفاء نيران العقل المشتعلة الدافعة الرئيسة للقيام بأفعال الشيطنة، اللعنة التي تبحث عنها، تسكن الكيفية التي أوصلتها إليك، قد تطرق السلبية بابك، ولكن هذا لا يعني أنَّ عليك أن تدخلها إلى عقلك أثناء اشتغاله، ومرورك عليه، تلمع فكرة أمام النظر ممكن أن تغيِّر نظر العالم مما هو فيه، إلى ما ينبغي أن يكون عليه.
لماذا تشيطن العالم؟ ما أدى للسيطرة على الواقع، بعد أن كان مؤمناً بالتنوع والتعدد، والآمال والأحلام، والإنتاج والإبداع، لقد توقف كل ذلك فجأةً، واتجه لشيطنة الفلسفة والأديان والعلوم والجمال والحب، وأخذ بالاهتمام بكامل المسائل الدنيوية، واندحر عائداً لشهوانيته وأطماعه، فحدث الصراع  بين تقدُّم الإنسان المعرفي وأخلاقه، وبين ما يدين وأدبياته، خاصته بكل قواه المرئية واللا مرئية، وذهب  لمواجهة بعضه كل يوم، هل من أجل القضاء على المستقبل وتحويله إلى رعب غايته الحفاظ على شياطينه؟ وإن بقي هكذا، وتركت الأمور لنفسها، ألا تشعرون بأنها ستتجه من السيِّئ إلى الأسوأ، فيكون معه الخسران، وتكون البقية النقية ذاهبة إلى الشيطنة، بحكم وجودها كخيار يجعلنا نتساءل: ما الدور الرئيس الذي تلعبه السياسة؟ وهل اعتمدت أسلوباً جديداً، استنبطته من جوهرها، بأنَّ لا بدَّ من أن تدوس على المبادئ والقيم، كي تبقى مهيمنة على كل شيء، بعد أن فشلت في إعادة التوازن إلى الفكر الإنساني؟
كلّ حلٍّ ينتج مشاكل جديدة، لا تدع الماضي يعيقك، وأنت سائر إلى الأمام، فلحظة احتفالك بعيد ميلادك، تفكّر في الحال التي تكون بعدها كل الأمور على ما يرام، في النهاية، فإن لم تكن كذلك، فتلك ليست النهاية، إنما بداية لك؛ فهل أنت قادرٌ على استثمارها، لن تحصل على غدٍ أفضل، إن كنت تفكر دائماً في الأمس، خطِّطْ للغد، ففيه وجودك، إلا إذا منعك القدر، ليست المشكلة في أن تخطئ، حتى وإن كان الخطأ جسيماً، وليست الميزة، أن تعترف بخطئك، وتقبلك للنصح، إنما المشكلة في ألا تعود للخطأ من جديد، ولعلمك لن ينتبه إليك أحد، إلا حينما تخطئ. هل مرت بك فرصة، لم تستثمرها؟ كيف حالك الآن من دونها، تفكّرْ؛ هل يقول الشيطان غير الحقيقة، لكونه وحده يعرفها، ويمسك بها، ويعمل على تغييرها؛ فكيف بنا لا نمسك به؟ هل نصلي من أجل خطايا، أم من أجل خطايا الإله تجاهنا؟ تعالوا نتفكرْ فيما أُبلس علينا من فلسفات الحقّ والباطل؛ أي مما قُدّم لنا من دون هوية أو فكر، فقط كان علينا أن نؤمن من دون نقاش، من يسأل مفقودٌ، أو معدومٌ، أو مزندقٌ، لذلك نجد أنَّ تقدُّم العلم، لم يتساوَ مع قيمة ما أنتجه العلم، ولم يتقدم في حسن استثماره له؛ بل راح يستخدم بدونية، غايتها السيطرة على بعضه.
ما بين كلِّ ذلك، نجد أنَّ الحقيقة والتاريخ، لا يدركهما كائنٌ من كان، ومهما بلغ من شأن، لأن المنطق العاقل، يتحدث هكذا، فلا التاريخ يرجع إلى الخلف، وأيضاً لن نصل إلى الحقيقة المسكونة في سراب الواقع، وإدراك المفهومين ممكن جداً، إن قدرنا التلاعب على ألاعيب الشيطنة، ما يمنحنا فرص الاقتراب منها، ولا يتمُّ ذلك، إلا بعد أن امتلكنا علمية بعض الأشياء المبهمة، وحولناها إلى معارف، بعد أن نطلق عليها مسميات، فالحقيقة تتجلى في الصدق أمام الكذب، والواقع أمام الوهم، لتظهر كأحد أكبر الإشكالات القابعة بين المعرفة والفلسفة.
ذكر الكتاب المكنون في متن آياته، عن تلك الحوارية التي جرت بين الله وإبليس الذي وعده بأن يغوي البشرية جمعاء، إلا عباده المخلصين؛ فهل سيصمد المخلصون أمام شيطنته وشياطينه الذين أصبحوا السواد الأعظم من البشرية؟ وهل سيكون شعار الصمود والتصدي له ولأتباعه انتصاراً حقيقياً، يدعمه الربُّ الإله، أم ستنتهي قبل الوصول إلى ذلك؟ 
د. نبيل طعمة