المشاهد الدموية

المشاهد الدموية

افتتاحية الأزمنة

السبت، ١١ أكتوبر ٢٠١٤

أفكار هدامة، لم تدع أحداً إلا وغزته، أثارت اشمئزاز غير العاقل فكيف بالعاقل الطبيعي المتزن والمتوازن، والبسيط الطيب المسالم، الذي لم ينتمِ يوماً إلا إلى ما يعتقد بأنّه جيد له وللحياة، أي إنّه يسعى من صباحه حتى يصل ليله ساعياً وراء تأمين عيشه، وترتيب أسرته، وتوضيب ظروفها ضمن مساحة المسموح. وأيضاً رؤية الغني والسياسي، وحتى العسكري النظامي، الذي لم يؤمن يوماً بالدم إلا من خلال واجبه في حماية وطنه وحدوده، أمنه وأمن مجتمعه، غدا الكلُّ يتابع، ووصل الجميع إلى درجة من الإذهال، أمام وخلف وعلى جانبي الحركة والسكون من المشاهد الوحشية، والانقلاب الأخلاقي قبل الديني الذي لم يعرفه التاريخ الماضي والحديث، غيابٌ كاملٌ للإيمان بإنسانية الإنسان، وبرسل الرسالات السماوية والثقافية والوضعية، وضياع فلسفة التأمل والإبداع، وتحول ثقافة الأدب والشعر والأناقة واللباقة والاحترام إلى ثقافة تخوين وإقصاء وإخضاع ورقابة وفتاوى تكفير بلا تفكير، يسود عالماً أستطيع أنْ أطلق عليه وحشياً بامتياز، لا دور فيه للأمان والسكينة، إنّما للتدمير والخراب ونهب بعضه بكل الوسائل والأشكال، بعد أنْ تم تجاوز كل مفاهيم الشرائع والديانات، ومفاهيم الطوائف والمذاهب والعلم والعلمية. زمنٌ يسود على السواد، فَقَدَ فِكر المحبة والتسامح، حتى لغة العيش المشترك والتعايش الطبيعي منه والقسري، وضاع حضوره ليلتقي الجميع على نظرية ((الخٌلْد))، ذاك الحيوان الذي يبني بيتاً تحت الأرض، ويجعل له عشرات المخارج، والذي استمدت منه البشرية المظلمة فكرياً نظام غريزة العيش السفلي، لتعود بقوة إلى عالم الظلمات والهمجية والبربرية تحت مسمى الثورات.
هي كذلك الرؤية الليلية والنهارية وعلى مدار الساعة، مشاهد دموية وتوحش، ووحشية صراع ديني ديني، ديني سياسي، سياسي سياسي، اجتماعي بين طبقاته، أيقظت الطائفية من كل طوائفه، تخوض من على السطح صراعات دامية على جغرافية ما يسمى الشرق الأوسط والعوالم العربية والإسلامية حصرياً، ويخسر العالم برمته نظرية الأخلاق، قَتَلها وفناها، ودفنها بقوته الهائلة ووسائطه الفتاكة، وغايته إعادة عوالمنا إلى الهمجية التي مارسها العالم الأول يوماً ما، وكأنّ جينها لم يمت، وخوفاً من أنْ يستفيق لديه يرسله بين الفينة والأخرى يعبث في كل الأفكار الجيدة التي أظهرت من بين الفكر البشري إنسانية إلى حد ما. ولكن، وعلى ما يبدو أنّ الهمجية والوحشية في عقل البشر المادي أكبر وأقوى من إنسانيته، وأنّه ينشرها ويغطيها مجاناً، نعم يعود العالم برمته إلى التوحش، يلتقي على مائدته الأول مع الثالث، المتقدم مع المتخلف، المتنور مع الجاهل، تتجلى منه حركة اتفاق نادراً ما حدثت في التاريخ، أي إنّ الماضي التقى على فكرة الوحشية ومارسها إلى أن رفضها وتطور، أما أنْ يعود الحاضر بعد كل ذلك الإنجاز العلمي والثقافي والفلسفي والديني إليها، مصوباً إياها على كل ثقافة القتل وسيلان الدماء، والأهم من هذا وذاك الاعتياد عليها، فهذا هو الإذهال بحد ذاته. الكلّ يريد أن يهيمن على الكلِّ، والكلُّ يتحدث عن المأساة ويعزف على أوتارها، والكلُّ يتحدث عن الإرهاب والعمى الذي أصاب ممارسيه، والكلُّ يرشدهم إليه لزيادته وتفعيله، الكلُّ ينشد التغيير ولا يعمل عليه، الكلُّ يريد أن يقتل ولا يريد أن يموت، بل هدفه أنْ يميت. استنكارٌ وتنديدٌ وتهديدٌ ووعيدٌ يسود عالمنا اليوم، لا حكمة ولا حكماء، ولم يعد للصبر حدود ولا نفاد له، بل بقاء في صدر وعقول الشعوب، استسلم الجميع للأمل ونظرياته، ولم يعد للعمل قيمة سوى ما سيعود على الفرد من عائدات يحمي بها نفسه، وإذا استدعى الأمر يقتل بها، وإرادته السيطرة على الكلِّ.
إلى أين، إلى عالم دموي وحشي، لا نرى ونسمع ونشاهد فيه ومن خلال وسائطه المرئية وغيرها إلا الدماء وسيلانها، ونتبادل الأحاديث التي سيطرت على عقولنا بها، فهل يمكن أن نتجاوزها، كيف، وبما، ومتى.. مشاهد دموية تخالف الطبيعية الإنسانية، تدهش القاصي والداني، وتشده المراقب والفاعل والمنفعل من خلال ما نراه  ونسمعه ونقرأه، كيف بنا نشهد ونندهش على من يعبث بأصول الفكر الإنساني وحقائق إيمانه وأصول الأديان وجذرها الحقيقي، والافتراء على الناس المصدومين بجهل الظلاميين، وتحوير الحقائق الراسخة، والتطلع لاعتلاء قمم التفسير والفقه والفتاوى، كيف يلقي هؤلاء المارقون قاطعو الأعناق والأرزاق مبرراتهم برحم الإسلام في ديار الحق، وإعادة صلب المسيح ضمن الأماكن التي نشر فيها إيمانه، كيف بهم يقطعون رؤوس جميع الناس من كل الأطياف والمذاهب والطوائف والأديان التاريخية وبقاياها الراسخة والمستمرة، كيف ندع هؤلاء القراصنة الذين سطوا على العقائد أنْ يذبحوا ويدمّروا ويُقصوا السواد الأعظم من الناس، إنّها حقاً مشاهد دموية.
د. نبيل طعمة