إنسان الله

إنسان الله

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٣١ يوليو ٢٠١٨

يدرك أنَّ ضعف العلم وفقده للرابطة الإيمانية به يؤدي إلى ضعف الولاء وضياع الانتماء وإفقار قيمة وجودة الأداء، فإذا لم نشعر بالجمال من حولنا فكيف نبني مثلاً عليّاً، وعندما لا نبدع في تصوير الجمال، ونبخل في إضافة الحسن للطبيعة، ونعاهد الحياة على أن نحسن فيها، وننتج لها، كيف بنا نفهم الأساطير وجذورها والقصص ورواتها، ونمتلك نواصي الإيمان، وفيما بعد نتجه إلى الدين ووظائفه، ونوضح للآخرين الفرق بين الصح والخطأ، والفضيلة والرذيلة، والحلال والحرام؟

كيف بنا ننهي مواطئ الزلل، ونبتعد عن النقد، ونذهب لإصلاح الخطأ؟ كيف بنا نعشق الزوجة والولد، ونداري الحبيبة والصديقة والرفيقة من دون عشقنا وفهمنا لمصادر الفنون التي إن استوعبناها حتى ضمن الحدود الدنيا، ولدت لنا الاستمتاع بمكنونات الحياة؟

كيف بنا ننهي التكبر والتكلف والتملق؟ إن العظيم -مهما كبر- عليه أن يمتلك قلب طفل بريء، فالإبداع ليس في تجديد المظهر، إنما يكون في الجوهر، وإن نبذ التقاليد البالية حق، ونفض عبء الأطلال ضرورة، تبدأ من الواقع، وإن التخطيط للمستقبل يدعو لإخراج الحقائق من الأحلام، كما هو حال إخراج الحب والفهم والعلوم من جوهر الفلسفة.

أسألكم ممن نلتمس المغفرة؟ من الخطيئة التي نرتكبها في أنفسنا، من القانون، من الله، من الأنثى...؟ وإذا كانت الحياة مبارزة بين الأحياء وصراعاً مستميتاً للحصول على المال والمرأة، فما علاقة المشاعر والظلال بالسواد والبياض وتدرج الألوان، وكل منا امتلك أسلوبه؟ لتكون النتيجة هدفاً واحداً يحمل معنى واحداً، يتوه بين الهزل والجد، يبحث في الخيال عن الواقع، يصرخ مع كل ابتسامة حزينة عن آه الحياة.

لا علاقة لله في حروب البشر، ولا يتدخل في نجاحهم أو في إخفاقهم، لا فيما يصنعونه من جحيم مدمّر لهم، ولا خطيئة يرتكبونها، ولا في بنائهم للجنان، أو إبداعهم للحياة، وحده تاريخ البشرية يشهد على حياتها وتنازعها، حب العنف والشغب والفوضى، لأن الاستقرار الدائم يعني السذاجة والملل من جراء الحاجة إلى أي جديد، فتراكم المادة لا يعني السعادة، لأن التعاسة تنشأ من نظم الحفاظ عليها، والعظمة تتجلى في التواضع، لأن الادعاء والتكلف لغة الصغار والمارقين، لذلك كان اللـه ومازال ملهماً للحب، للفن والإبداع وتنوعاته المحكمة الصنع، يراها المتأمل الدقيق والعارف الرقيق، لكونه يسكنها، وبها يعرف، ومن دونه يتصحَّر العقل، فيذهب إلى الأحلام، يتعلق بها، فلا هو واصل إليها، ولا هي مدركة إياه، لأنه أي اللـه يفكر فيما أنجز، يتابعه من دون أن يتدخل فيه، يعطيه الفكر الجمالي، والإنسان يشوّهه، يقتل الوردة التي يريد اللـه أن يراه فيها، ويقتل أخاه بسبب شهوته لامرأته، وقربانه يقنص نتاجه الحسن، يذهب، يندب آثامه، يعزوها إلى خالقه، وخالقه براء منها.

كيف بنا ننجز معادلة الخالق والمخلوق إيجاباً لا سلباً، كي نبعد رميه بما نخطئ، وأنه السبب والمسبب؟ أفلا نتفكر أيها الناس؟ أفلا نعقل ونبصر ونعلم ونسمع ونرى ونعمل كما عمل اللـه حسناً وبجودة عالية في أيام خلقه الستة لمقتضيات كونه وإتمامه له بالشكل الدقيق، بمن فيه إنسانه وحيوانه ونباته؟ هل تعلمنا منه العمل وجودته وإتمامه كما يجب أن يكون، ونشهد بعد أن نسمع صوت العقل، ونرى نور القلب؟ أم إننا باقون على التخلف، متمترسون خلفه، ندعي الحقيقة والكمال الذي لن ندركه؟

مشيئة اللـه أن يُسجد لإنسانه وألا يكون له عبداً، وأن يكون على شاكلته خالقاً ومبدعاً، وامتاز عنا بألا يكون لنا في الحياة خلود جسدي، ليس فقط للإنسان، وإنما لكامل مخلوقاته باستثناء الجوامد منها؛ بل أوجد خلوداً بالأثر الذي لا يحضر إلا من جنون العبقرية وشطحات الفكر وعهر الكلمة والحركة الذي نصنعه على سلم المجد الذي نصل إليه بالهمة والثبات والإقدام، فنجد حينها الرفعة التي نصعد بها درجات، تكون في فرق العقول وطيب القلوب وإنجاز الحقوق.

كيف بنا نرى اليوم إنسان القدر الذي شكل المجتمعات والأمم في قارات ودول منقسماً في ذاته، شارداً وتائهاً، متوزعاً بين غزوه وجبروته، بين إبداعه واستئجاره، تارةً غافل وخانع، وأخرى متكبرٌ مستبدٌّ وظالمٌ، همّه الرئيس أن يملأ جوفه برغيف يتناسى أنه آيل إلى ما تحت الثرى، فهو يَرى ولا يَرى، يُدرك ولا يُدرك في آن، تطاحن معيب وتواطؤ غريب على حياته المسكونة في ذاته.

كيف بإنسان اللـه يمزج المادة بالتجرّد، والحب بالكراهية، والبناء بالهدم؟ يسقطها على واقعه، ومن ثمّ يرميها على قدره، تجده يحوم حول الفراش، حول الشموع التي تضيء عتمته، لذلك نرى أن حياة الإنسان مغلفة بسماء صافية، تحجبها غيوم رقيقة وداكنة، عنيفة وهلامية، لم يستطع أن يلامسها، فذهب للبحث عن المعرفة، وتخصص لأنه لا يقدر على امتلاك مجموع العلوم.

هل عرف إنسان اللـه نفسه؟ هل عاد إليه وتعرف عليه حقاً؟ أم إن المعرفة البسيطة عنه وصلت إليه بالفطرة عبر التناقل؟ وإن إيمانه بالحب بداية للمعرفة، مثله مثل النار التي تمثل بداية النور، وإنه كالشمس، كلما أشرق أضفى على ذاته الإنسانية معاني الحياة، وأهمها الأخلاق والفضيلة.

أين هذا الإنسان بجزأيه الذكر والأنثى، الفريد في صلابته، المشكل لوحدة نسيجه، المتين في إيمانه وشدة شكيمته لمنجزات اللـه وحكمه عليها؟ هذا الذي قلبه واسع وسع الحياة، المحارب ضد اقتسام اللـه الذي لا يختلف في فهمه له، والمدرك أنه بعد أن عرف أنه كان شيئاً بلا معنى، فأنجز لذاته معنى، فغدا إنساناً، واقترف الخطايا، ليتحول إلى بشر، التي تعني بدء شره وسطوه وشراهته، ليعود إلى اللـه رامياً عليه جميع أخطائه، وقائلاً اللـه يريد لي أن أقع، وأن أسجن، وأن أنتهك الحرمات، وأن أقتل، وأدمر، والله دائماً براء.

الله الذي منح إنسانه فلسفة حكمه، ونقل له كامل نظامه الأمني، أجهزة الرقيب والعتيد والتنصت من خلال استراق السمع وملائكته من نور وأيضاً من نار وجنود لن تروها، ومؤيدين ومعارضين، أراد له أن يتعلم نظامه، ويحكم به، فكلفه خلافته، لأنه على شاكلته، كيف بإنسانه الذي أسكنه جميع صفاته المطلقة عليه لا يدرك المعاني والرموز التي دوَّنها إنسانه، بعد أن أوحاها إليه في توراته وإنجيله وقرآنه، كيف بالمفسر لا يفكك تلك الرموز العلمية والفلسفية، ويذهب إلى التلمود واللاهوت والناسوت والفقه والشرع والعقيدة؟ كيف بإنسانه لا يدرك أن القادة حضروا من إرادته، ليكونوا على شاكلته؟ ومن يخالف منهم يخالفه فينتهي، ومن يتوافق يكن منه مستمراً، كيف به يصطنع لنفسه أنبياء وقادة، وينهي فعلهم ووجودهم وأخطاءهم من دون إرادة.

إنسان اللـه قائد عظيم، ورئيس حكيم، وعالم مبدع، ومفكر مقدام، وشجاع مغامر مقنع، مواطن شريف، وإنسان أمين صدوق، يسعى لنيل مجد النبالة بالعمل الشريف، يبتعد عن التمجيد وأدواته من نفاق ورياء وغشّ وزندقة، ولا يؤمن بتشويش الدنيا الأساس على الأديان المسقطة عليها، ويؤمن بأن له صانعاً، يتعلم منه صناعة ما يفيد إنسانه في استمراره وإعانته لذاته على استمرار هذه الحياة التي بدأت كي لا تنتهي، إنسان اللـه يحمل ويجسد بعلمه أسماءه الحسنى باستثناء اسم الجلالة والاسم الأعظم الخفي الذي يختص به القادة العظام والعلماء والعارفون.

د. نبيل طعمة