أعداء الحقيقة

أعداء الحقيقة

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٥ أغسطس ٢٠١٧

يهجمون على حواضن الإبداع التي تأخذ دورها بقوة معلنةً نهوض وطن بقواه المسكونة فيه، احترفت صفوف بناء الدولة، وحمايتها تدعونا لنشهد اليوم حياة الكلمة المطبوعة بين ضفاف صفحاتها التي تنساب على سطورها، لتعلن فيها ولها أنها حيَّة ومستمرة مظهرة تنوع المنشور منها، حيث تحتفي دمشق سورية التي تنتصر مع إشراقة كل صباح على كل ذرة من ثراها، ومن جميع مفاصلها في معرض كتابها وكتاب العروبة العائد إليها، حيث حاولوا قتل الكتاب والصحف واصطياد كلمتها الحقّة ضمن أزمة تغادرنا قسراً بفعل فكر إستراتيجي، أنتجه قائد استثنائي في زمن عزَّ فيه القادة الحقيقيون والخلاقون، يقود بحنكته سياسة جامعة دقيقة وجيشاً لا يعرف إلا التضحيات وشعباً مؤمناً بالله وقائده ووطنه بعد سنين عجاف.
كيف يحدث هذا؟ لأن الوطنيين المتجذّرين في دولتهم تفوقوا على مقتضيات البيئة وفرائضها العفوية منها والمركبة عليها، نراها تمسح الصور الظاهرة على التخلف، تنهيه، تتجاوز حاله، تناقش مواضيعها وأخطاءها التي ارتكبها البعض أثناء مسيرها إلى الأمام، تعترف بوجودها، وبأن إهمالها لها أسهم إلى حدٍّ ما في حدوث ما حدث، لتبقى غايتها تعزيز الإيجابي تحت مسميات النقاش الموضوعي والمحاكمة العاقلة لمقتضيات تجاوز الأخطاء التي دوَّنها الزمن وصولاً للتطور ومواكبته والأمن والاستقرار وحق المواطنين في الحصول عليها، وفي الوقت ذاته رفضاً للتخلف الذي تمسك به البعض من حواضنه المنتشرة على مساحة وطن، تلك التي لم يشتغل عليها في حينها.
أعتقد جازماً أننا كسوريين أدركنا تماماً ما أقدم عليه البعض ممن تمسك بالتخلف، ومن اعتبر وجوده هدفاً، شكل حواضن للإرهاب، واستقبله، وعمل معه، ومع أولئك الداعمين له بعد أن شهدوا تدمير بناهم، وأنهم مسؤولون مباشرة عن خسائرهم لمقدراتهم وتوهانهم بين التشرُّد والتهجير والنزوح، أو حمل السلاح والقتال حتى القتل الذي حل بهم، فما فعلوه دفعوا ضريبته نتاج اعتدائهم المباشر وغير المباشر على جيرانهم وإخوتهم وجيشهم ومؤسساتهم، على شركائهم في الأرض والعرض والبناء والتطور، هجموا على وطنيّتهم ومواطنتهم ومواطنيهم، اعتقدوا أنهم قادرون على غزو دولتهم الحديثة المؤسسة بقوة بعد امتلاء فكرهم بثقافتي الغزو والغنائم، استسلموا للمال المنافق، وزُوِّدوا بأردأ أنواع السلاح، هم ذاتهم أحفاد وأبناء عقود خلت، صدَّقوا أنهم ثوار ضد الانتداب الفرنسي، وتخيلوا أن دولتهم التي تأسست في السبعين من القرن الماضي على الحداثة والفكر العروبي القومي وثقافة المقاومة للتخلف وكل أنواع العدوان سهل اصطيادها، لم يدركوا حجم بنيانها، واعتقدوا أنها دولة هشَّة، يسهل قضمها، لم يعرفوا أنها قامت كما المسيح في قيامته، وكما الإسلام في ظهوره بقوة الحق، تشابه ذاك مع كل أشكال الاستعمار البائد، وانطلقوا من الحواضن ذاتها التي كانت سائدة في حقبة الانتداب.
أتحدث هنا في مصارحة، لعل الذين انجرفوا إلى التبعية يدركون أنهم خسروا ودمروا أنفسهم أمام الدولة الوطنية التي عملوا على هدمها، بعد أن عززت بقائد استثنائي في الزمن الصعب، وفي اعتقادهم السطو على قيادتها وشعبها، لم يتطوروا أبداً باتجاه وطنهم، وعلى العكس تماماً تمسكوا بالماضوية، استخدموا الله ودينه السمح من دون أيِّ إيمان بجوهره ومنظومة الواجد والموجود، ربحت الدولة بقوة إيمانها، قدمت آلاف الشهداء والجرحى من شرفاء حماتها وجيشها وأبنائها المؤمنين بها، طبعاً امتلؤوا بالعقد، واعتبروا الوصول إلى سدَّة الوطن عقدتهم الأولى والأخيرة، من دون إدراك لوعي المواطن، أو استلهام حاجاته وتطلعاته وأحلامه.
لماذا نتحدث الآن عن هذه القضية؟ دعونا نعلن بفخر أن سورية حية، وشعبها الوطني متمسك بقوة في الحياة، وها هو يعلن تحقيقه للانتصارات التي تؤسس لانتصار دولته الوطنية بشكل نهائي، من خلال ما يحققه جيش سورية العظيم، وبفضله تنهض بكلمتها الخلاقة ويدها العليا في معرض كتابها في مكتبة الأسد الوطنية، ومعرض منتجاتها الوطنية من صناعية وزراعية وتجارية وعلمية ضمن معرض دمشق الدولي اللذين يعيدان الحياة بإرادة الحياة، ويتقدم معهما معرض زهورها الذي يبثُّ رياحين وروده على أرواح شهدائها، يهديها لجرحى الوطن، وللسواعد العاملة على إعادة ما تهدَّم بعزم إيماني قلَّ نظيره لدى شعب من شعوب العالم.. هل هناك أبهى من ذلك في وطن يجترح المعجزات من خلال المنجزات، حتى وإن حملت مسيرته الخطيئة في بعضٍ من مناحيها؟
أعداء الحقيقة يقاتلون انعكاس الوعي الممتلئ بالعمل، بالأمل، بالتحضُّر الذي يحتاجه الإنسان الساعي للتطور، لذلك نجدهم تصارعوا على إخفاء ما ينجزه وطنهم، قدموا من بقايا استعمار متعدد الألوان والأشكال؛ «مغولي، تتري، عثماني، فرنسي» وقادوا ضد شعبهم ودولتهم أشرس أنواع الانقلابات، حملت فلسفتهم لغة واحدة، ألا وهي قضم السلطة والوصول إليها والصراع عليها، لا الصراع مع أعدائها، شهد ذلك السوريون منذ الجلاء وحتى السبعين من القرن الماضي، وحاولوا بعد ذلك في السبعينيات وأوائل الثمانينيات، عبر الحركة الإخوانية السياسية، وفشلوا بعد انكشافهم ومعرفة الشعب بأنهم بعد أن حدث الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني ومعه التطوير والتطور للجناح العسكري، عادوا من الفكر ذاته، وإرادتهم هدم التطور والعودة إلى التخلف وسياسة الخلاف لا الاختلاف والسطو على السلطات والإيمان بالتبعية التي في اعتقادهم تحقق الرفاه، بينما الاستقرار الحقيقي يحتاج إلى القوة والفكر العلمي والقضاء على التخلف الذي يعمل على محو الأمية الفكرية الحاملة للأمية الدينية، وسورية الحديثة والمطورة والمحدثة بنت قواها من ذاتها ولذاتها، ولذلك نجد أن أعداء النجاح هم ذاتهم أعداء الحقيقة والواقعية، يتلطون تحت أجنحة مشغّليهم، يدفعونهم من أجل الانقضاض عليها، من يقدر على نكران صانعي سورية الحديثة التي ظهرت على وجه الأرض بعد استنهاض قواها؟
أيها السوريون وطن يقاوم عنكم الظلم الذي يُزِل القِدَم، وينهي النّعم، ويجلب النقم، ويُهلك الأمم، ويورث الندم، هل فهمتم وتفهمتم ما الذي حدث وما الذي أراده لكم مسببو كل ذلك؟ أولئك الذين استجابوا للعداوة بدل الإخاء، وللانفصال عن المساواة بدل اللقاء والالتقاء، وفي اعتقادهم أنّ الفرصة مواتية للانقضاض على الوطن وما فيه.
وحينما أكتب عن أعداء الحقيقة بنور حق سورية، أدرك أنهم سيجيِّشون الجيوش لضخ التضاد، لكننا أمة قائمة واقعية، تؤمن بالعقل وبعرف الحكمة، من إيمانها الدقيق بالكليِّ المحيط السرمدي الذي منح قائدها صورته على أرضه، بكونه صاحب علم، وحامل فكر، وممتلكاً لخيوط اللعبة الكبرى التي يجلس إلى طاولتها، متى يفرد أوراقه ومتى يلمّها؟ فهو رجل المرحلة وكل المراحل، واستمراره حالة الانتصار لسورية الحقيقية التي ترسمه لها، منه ظهرت، وبه تستمر، يسقط أعداؤها أمام انتصاراتها المستمرة، يسجلها التاريخ في آبدته حياة لا تنتهي، هل ينتهي أعداء الحقيقة وسورية تضع أقدامها على سبل تحقيق النصر النهائي؟ أعتقد أن بقاياهم ستبقى تتحرك تحت أجنحة النصر، فهل ننتبه لهم، ونكون ساهرين وواعين، كي لا يعودوا في المستقبل؟ فهذا وطننا وطن التعدد والإباء والإخاء، لا وطن العداوة أو الأعداء.

د. نبيل طعمة