قهر الصمت

قهر الصمت

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ٢ أغسطس ٢٠١٧

حقوق الآخرين وحقوق الأولين، بينهما نجد أنفسنا نبحث عن حقوقنا في الحياة الناتجة دائماً وأبداً عن خياراتنا التي قد تنعكس سلباً أو إيجاباً عند إثباتنا بأنَّ قوانا الذاتية قادرة على تحمل نتائج منتجنا المادي أو اللامادي؛ أي ما نحمله في فكرنا وعلاقته بما نريد أن نصل إليه، وهنا لا أنحو إلى فلسفة الصمت، إنما للإضاءة على فلسفة قهره من ذاته، والغاية تحليقه بجناحي العلم والمعرفة ونتاجهما التكلم عن الحقوق بالحياة التي إن أدركناها أنهينا الكثير من الأنانيات والعداوات والحروب، وذهبنا إلى بناء المسكونة منا التي تمنحنا قوة التخطي لحدود الزمان المكان.
طبعاً لا أقصد هنا إلا الأجيال الفاعلة وعلاقتنا بها، وكيف بها تطرح الأسئلة علينا، علّها تجد ضالتها، لتأخذ بعدها نواصي تحديد مساراتها، تريد الحرية من ماذا، وفهم الرابطة بين الدين والله والتعلق بالوطن والبناء فيه والانتماء إليه ونظم التفكير وهموم بناء الأسرة وتكوين المجتمعات والصداقات فيها والحدود الظاهرة والخفية بين الأنا العبثية المطلقة والأنانية المقنَّنة والعقل الجمعي المراقب لحركة النمو وحقوقه وحقوق الآخرين؟
هل مسألة انتمائنا للجنس الإنساني تحمِّل كواهلنا أعباء إدارة الأرض؟ وهل عدم فهمنا لمنظومة الخلق والخالق بشكل علمي نقارب معه الدقة، يؤدي بنا إلى عدم فهم حريتنا؟ ومن ثمَّ التعدي بمفهومها على حقوق الآخرين، ما ينشئ أزمات أخلاقية كبرى، تظهر العنف، وتزيد في التطرف، تنمي الخوف من الآخر، تقتل الحب والمبادرة بعد أن تجعل من الصمت أسلوب حياة، ومن الوظيفة الرتيبة منهج تأخير للحركة وإصرار على البقاء في السكون.
هل الصمت عند تحقيق الفوز يمنح الثقة، وحضوره لحظة الغضب قوة، وعند القيام بعملية إبداعية إبداع، ومع استقبال النصيحة أدب، وحين تجلي الحزن شكوى خفية للكلي الذي لا يعني الكل، لأنه عندما يتكلم يجترح العجائب، إنه الوحيد، وأقصد الكلي، يفعل، لا يتكلم أبداً، وإرادته أن نتكلم لا أن نصمت، الحرية سبب رئيس لكل ما يجري على كوكبنا، ومعضلتها تكمن في عدم التكلم بأنَّ لا حرية في الحياة، وأنها وهم الأوهام.
كيف بنا نجيب الأجيال عندما يسألوننا عن ماهية غدنا، وما الغاية من وجودنا فيه؟ هل نستطيع أن نجيبهم أنَّ غدكم مثل أمسكم، مثل يومكم، أم إن هناك تطورنا؟ ينبغي أن تكونوا مستعدين له، وإلا فستسقطون.
من يرسم المسارات للغد وبعد الغد؟ القادة السياسيون، العسكرة، القائمون على الشؤون الدينية، المفكرون، المثقفون، العلماء المنتجون…؟ ومن القادر على الإيفاء بالوعود؟ هل يجتمع العمل والأمل من أجل كسر المستحيل؟ وهل يمتلك الصبر القدرة على الانتظار المديد؟ لا نريد أن نراوغ أجيالنا، ولنضع وجودنا تحت عدسة الاختبار، ولنبتعد عن سيناريوهات التخدير والتسكين، ولنفسح في واقعنا للفرص حضوراً حقيقياً لا وهمياً، لنعترف أن أمام الأجيال خيارات صعبة مع تنوع الأزمات واشتداد حدة المواجهة وظهور صعوبة التكهن بالمستقبل.
الأجيال القديمة ترفض التطور، الأجيال القادمة تحمل شعارات الرفض والغضب والتمرد على الواقع وممارساته، تبحث عن حلول جذرية لمشكلات التقوقع والكبت الديني التاريخي والإداري في آن، تريد الخلاص من الوصاية الأسروية والوصاية على وطنها، إنهم يقدمون لنا رسائل قوية ومباشرة، مضمونها إجراء تحولات مقنعة في الفكر السياسي وجذرية في البنى الاقتصادية، تسمح لهم بالوصول إلى الفرص وإبداعهم فيها، وحلول ناجعة للواقع الاجتماعي الذي يسيطر عليه الفكر الماضوي والتبعي الذي أدى بكثير منهم للتطرف، وانكشف لهم أنَّ ما ألقي عليهم من شعارات لم تكن إلا واهية، وأنها ثورة اللا ثورة، وما هي إلا إجحاف بحقهم، أودى بهم إلى الهاوية، فما سميَّ «الربيع العربي» حمل هدفاً واحداً، تجلى في خطف أحلام الأجيال بالحياة والبناء وإعادتهم إلى الوراء، لقد صور لهم أن تغيير الأشخاص والحكومات والمسميات يحقق لهم ما يريدون، وهاهم اليوم يجردون الخسائر الهائلة التي أنجزت بفعل تلك الثورة التي انهارت بانهيار أفكارها المستوردة، وأدرك الجميع أن فرقتهم وغربتهم ضمن أوطانهم تؤديان إلى تآكلهم من الداخل وقضمهم من الخارج، وتساوى بذلك السائل والمسؤول، الحاكم والمحكوم، الممنوع والمسموح، الأميّ والعارف، فضاعت الحقوق بين الماضي والحاضر، وبدا المستقبل مبهماً بحكم ضياع القضية الجامعة والرؤية الموحدة.
دعونا نعترف اعترافاً فردياً وجماعياً لا يستثني أحداً من أجل التطهر مما اقترفناه، الكل انتهك الحقوق، العارف والجاهل، دعونا نتحدث ونقهر الصمت، وألا نختبئ خلفه، فمعجزة التكلم القدرة على الاعتراف الذي يخرجنا من مآزق الأزمة؛ بل الأزمات، ويعطي لكل ذي حق حقه.
إن كسر حاجز الصمت بالكلام يؤدي إلى تقاسم الهموم والأعباء، ويمنح الراحة والتلطُّف والصفاء، فالرحمة الإنسانية المسكونة في جوهر كل إنسان تغفر الأخطاء، وتجد لها ألف تبرير وألف عذر من أجل العودة لبعضنا، فهذه مسؤولية الإعلام الذي يقع عليه واجب إيصال مصداقية الرسائل، فالأجيال تريد أن تكون متكاملةً عبر مسيرها وشريكةً في البناء والإنجاز، لا اتباع ولا دون هذا عن ذاك، وأي شخص ينتهي بانتهاء الإنسان، أما المسيرة التاريخية فهي وجدت كي لا تنتهي، وبدلاً من أن نكون جيدين في معاملاتنا، تجدنا في هذا الزمن نبحث عن الشخص الجيد.
إن خرق التقاليد وزعزعة المألوف والإلمام بمحاكاة الصمت، يؤدي إلى قهره أولاً، ومن ثمَّ التحليق عالياً، وهذا لا يتم إلا بالتفوق على الصعاب، بعد أن ينهي المرء كل أشكال التزمُّت، ويكسر الحواجز التي تحجبه عن الآخر، فالمعاناة الإنسانية تؤمن بالنجاح، ترفض الانهزام، وإنَّ السعي لاستثمار الطاقات المبدعة هو أرقى أنواع التواصل شريطة الإيمان بنظرات مشرقة تجاه المستقبل الذي يعني في حقيقة أمره أنه الآخر، فالزمن الثابت يحاكي المتحرك عليه، نحن وجميع الأحياء مع الجوامد منها، ودقته تشير إلى اختيار الآخر واختباره الذي يكون بالكلام معه، من باب العلامات الإنسانية التي تمايز حضوره، هذا يدعونا للحديث عن زمن القهر الذي يجبرنا للبحث عن الحلول المبتكرة والنسج ببراعة الفكر، وحماية الوجود الإنساني وتحصينه بشكل دائم خوفاً من هزيمته أمام الفضاء ومساحته الهائلة المسكون فيها الصمت والكلام، الحب والموت، الحرب والكراهية الرمادية وظهورها من بين كل هذا التناقض.
صراع متواصل لا يهدأ، والأسباب الأديان والحرية والأيديولوجيات الناشئة ناهيك عن حجم تطور التكنولوجيا، يبدو أن فكرنا هرم، فلم نعد ندرك مثاليات الأولين المتجلية بالجار قبل الدار، ولا الصديق عند الضيق، ولا الأقربون أولى بالمعروف.
قهر الصمت يدعونا بقوة للكلام عن أنَّ السياسة والأديان ما وجدا إلا من أجل صناعة الفرقة والحروب وإعلاء الشأن المادي، فبدلاً من تبادل الحياة إنسانياً وثقافياً ومعرفياً نجدهم حولوا العلاقة إلى متاجرة مع الله معتبرين إياها فقط الرابحة، وأنَّ حقهم وحقوقهم عنده ومعه متناسين حقوق الآخرين عليهم، وأنه من دون الآخرين والصدق والأمانة معهم لا نجاح ولا حياة.
قهر الصمت بالكلام حاجة إنسانية ومطلب جوهري يحياه الإنسان مع إلهه بغاية الوصول إلى قضاء حاجاته، فكيف به لا يفعل ذلك مع أخيه الإنسان من أجل إثبات وجوده واستمراره.

د. نبيل طعمة