الديمقراطية الوطنية

الديمقراطية الوطنية

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٨ يوليو ٢٠١٧

لن أذهب بعيداً، ولن أغوص في تعريفات الديمقراطية ومنشئها، وأنها حكم الشعب وضد البيروقراطية، لأقول هل هناك من شعب قادر على حكم نفسه، أم إنه يحتاج إلى قيادات منظمة قادمة من أحزاب أو من قادة جيوش، تصنع الانتخابات، وتحدد النتائج؟ هل من يستطيع أن يقدم نفسه ويصل، ولو تحدثنا قليلاً عنها لوجدنا أنها بناء غربي شيّد من ذلك الزمن البعيد، وفي معاني إنشائه وتدعيمه اعترض عليه أهم الفلاسفة اليونانيين كسقراط وأفلاطون وأرسطو؟ كان هذا قبل الميلاد بين القرنين الرابع والثالث، زمن وجودهم، ولم يكتفوا بالاعتراض والانتقاد، إنما دعوا لنبذها، وطالبوا بوضع شروط موضوعية تساعد المجتمعات أولاً، وقبل أن تكون صورة أو واقعاً، تأخذ به الدول، وترسم سياستها بناءً عليه، لأن بناءها إن حصل فإنما هو تكتيك تلعب به الديمقراطية، بكونها أداة للديكتاتوريات العالمية الخفية، تحار من تلصق بهم سمات الديكتاتورية.  
أعداؤنا لم يحضروا إلى هذا الوطن سورية إلا من أجل هدم وحدتنا، وتفكيك قوتنا، وشرذمة أفكارنا، وتأخير تقدمنا، ومنع سيادتنا من حضورها النهائي، وأكثر من ذلك تدميرها في داخل كل سوري، بعد أن قادته سوريته للوصول إلى كل مكان في العالم وحضورها فيه كدولة محترمة قوية فاعلة، يعود إليها الجميع، وفي نظرهم أنها أصبحت عبئاً ثقيلاً عليهم، لماذا؟ لأنها لم تخضع، لم تستسلم، لم تتوانَ عن الدفاع عن حقها وحق كل عربي، لقد غدا السوريون قبل ما أطلق عليهم الربيع العربي أنشودة الأناشيد، وشمخوا شموخ الجبال الملهمة، وتمتعوا بموجات حضارية هادرة، وقدموا نظريات محورية نافعة وناجعة، أحكمت الفعل، وطورت المحبة، ونشروا الحرية خاصتهم على الواقع المقاوم للظلام والظلم والظلّام، إنهم مدعوون الآن ومنذ اللحظة لاسترجاع بهائهم الثقافي واسترداد رسائلهم الإنسانية وتجاوزهم للضيق والتضييق على الإنسان ومفاهيمه الروحية بعد إنتاج فلسفة روحانية، تمتلك دينامية الأسمى والأرقى للحضارة والوجود التي أسسوا لها آفاقاً وأفقاً، بكونهم آمنوا بأنهم عموديون يتحركون أفقياً، كي يلتقوا بالآخر المتوافق مع أفقهم، أو يصطدموا معه، كي يعيدوه إلى جانب التوافق القادم من الالتقاء على طاولة الأفقي.
أين نحن من الوصفات الجاهزة التي تعتبرنا مرضى، تلقى علينا، أو ترد إلينا من الشرق أو الغرب بشكل خاص، ليؤمن بها المرضى فقط من مجتمعنا ومجتمعات الأمة العربية، وجُلّ حكامها من يهود الدونما متأسلمون، يحجون، يصومون ويصلون، وشهوة السجود مطبوعة على جباههم، الديمقراطية لا تستورد، إنما تنمو وتزهر وتزدهر ضمن الظروف والمناخات المناسبة لحركة كل مجتمع، ولا يمكن فرضها أو حتى طرحها كتجربة من دون دراسة خصوصيات كل مجتمع، وخاصة إذا كانت تحيا المجتمعات زمن الفوضى وتخبط الأفكار وتعدد الانتماءات والتبعيات والولاء للعشيرة أو القبيلة أو الطائفة أو الحزب أو حتى للزعيم.
نحن في زمن القلاقل، وضع إقليمي مضطرب، يرسم فيه الكبار من مجموعة الخمس زائد مجموعة السبع المتكونتين من بعضهما أوجهاً جديدة للإمبراطورية الإسلامية المسماة الشرق الأدنى، إلا أنهم مهتمون الآن بالشرق الأوسط والدول العربية الذي يكون جزءاً منها بشكل خاص.
هل يعقل أن يقوم الاستعمار القديم الحديث بما يحمله من ديمقراطيات بتقديم الأفضل لدولنا، وهل تهتم تلك الدول بإنتاج تطوير منطقي لمجتمعات ودول هذه المنطقة؟ من يعتقد ذلك، ومن يؤمن بذلك؟ هذه الدول التي أنتجت الكيان الصهيوني، وغرزته في قلب مجتمعاتنا، وأنجبت من خلاله قيادات صهيونية، تحكمه وتهيمن عليه، تمنع تطوره اجتماعياً واقتصادياً، وأهم منهما تمنع بقوة تحرره السياسي.
حللوا معي أسر القيادات العربية الحاكمة في الخليج، الأردن، مصر، المغرب العربي، الاستثناء في سورية، وربما نجد بلداً آخر، المؤسف أننا لا نريد أن نعترف بشعوب عربية تطالب بالديمقراطية والحرية والانفتاح الاجتماعي والاقتصادي على شاكلة المناهج الأوروأمريكية التي تعتبره تكتيكاً دقيقاً ضمن منهجها الديكتاتوري الاستعماري، الذي بموجبه تقود الشعوب وتديرها، وهم الذين احتاجوا للوصول إليه للقيام بثورات فكرية وعلمية وصناعية، وتحرروا من سلطان الملكية عبر الثورة الفرنسية، والثورة الأمريكية، ليصلوا بعدها لتطبيق الحرية الشخصية، وتحقيق تكافؤ الفرص، وتطبيق سلطة القانون الذي يمنح ويأخذ بالتساوي بين الحقوق والواجبات، ومعها تم بناء الطبقة الوسطى التي تضيق الهوة بين طبقتي الأغنياء والفقراء، حاربوا بهذا التدين الأجوف، وحصروه ضمن الفرد، قالوا له: لك أن تعبد ما تشاء، وتتعبد ضمن المعابد من تشاء، ولكن خارجاً نريدك حضارياً فاعلاً ومنتجاً اقتصادياً، حولوا مجتمعاتهم إلى منتجين وأدوات وآلات في وقت واحد، وأنجبوا نخباً سياسية نادرة خفية وظاهرة، تدير كل ذلك، وأعلنوا قيامة العالم الجديد، الشمال يحكم الجنوب، فألغوا بذلك تسييس المجتمعات، وأبهرهم بالمنتج الثقافي والصناعي، فأين نحن من كل ذلك؟!
طبعاً السوريون واعون ومدركون لما تحدثت به عن القيادات العربية، حتى القيادات السورية التي قادت سورية مبكراً في الثورة إلى الجلاء وحتى نهاية الانفصال، كان سواد قادتها من بقايا المغول والتتار وحملات أوروبا الغربية والعثمانيين، يعملون لمصلحة الوكالة اليهودية؛ بل أكثر من ذلك يتقاضون رواتبهم منها. وحينما أقول وأتحدث عن الوعي والإدراك السوري، أقصد بديمقراطيته الوطنية التي تأسست في سبعينيات القرن الماضي، ولقائه والتقائه مع الآخر في القمم العربية ومشاريع الوحدة والتضامن والعروبة والقومية وبنائه للمقاومة وتقديمها وحمايتها، ومع تطوير البنى الاقتصادية ومناداتنا الدائمة بضرورة إصلاح ذات البين العربية، بعد إحداث استفاقة لدى قياداتها، نشير إلى أننا لسنا ضد اليهودية، وإنما ضد السياسة الصهيونية وتصهين العرب.
ديمقراطيتنا الوطنية تؤمن بالجميع، لأننا نثق بالله، وعندما نثق به، يثق بنا، لذلك علينا أن نثق بوطننا، وأنه يستحق منا الإيمان به، وهذا لا يكون إلا بالعمل الجاد والمخلص له ولأبنائه أولاً، وثانياً قيام الإدارة عليه بفسح الحرية السياسية المؤمنة، والفكرية المنتجة، والثقافية المعبرة، والإعلامية المقدمة لكامل الصور، هذا الفسح يؤدي بالتأكيد للقضاء على أي فكر سلبي طائفي مذهبي، أو تشدد ديني أو عشائري أو قبلي أو حتى مناطقي.
مشروع الديمقراطية الغربية رداء جميل، بداخله خبث خطر، يحاولون إلباسه مجتمعاتنا التي تتهيأ له، ومشكلاتها العالقة في التدين والتربية والتعليم والثقافة والفكر والجنس والإعلام، إضافة لتركيبها الاجتماعي الديمغرافي، يجعل منها مشروع أزمات مستمرة وفوضى تدميرية دموية بشكل دائم، فالذي جرى معنا وضمن المحيط العربي أظهر ضعف الشعور الوطني والانتماء للعروبة وأوطانها والاستقواء بالآخر الذي كان يعمل ومازال على تقديم الأحلام الواهية، من هذا أجد أن الفرصة أكثر من مواتية للدفع بعملية ديمقراطية وطنية، فإن لم يؤمن مجتمعنا بديمقراطيته خاصته، وآمن بتلك الغربية التي أبهرته زمناً، حتى إنها أعمته عن رؤية ما يفعل بحق وجوده ووجود وطنه، فإنه سيبقى مجتمعاً مأزوماً. فإلى أولئك الطامحين لتحقيق التغيير على أشكال الديمقراطيات الأوروأمريكية الصهيونية، أقول لهم: إنه صعب جداً، أو بشكل أدق بعيد المنال.

د. نبيل طعمة