المردِّدون

المردِّدون

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢٨ فبراير ٢٠١٧

منتشرون بين مفاصل بناء الدولة، متحركون ظاهرون على مساحة الإعلام، ومتلبسون بين تراتبية المجتمع، هدفهم الرئيس التلمُّع أولاً، والتلميع الضار ثانياً، من دون وعي، أو بخبث الندرة الفاعلة، ترتكز دائماً على فلسفة القلقلة والعنعنة والعلعلة، لا إلهام ولا استلهام في حديثها، مفاد حضورها ناقل؛ أي قال وقال وعن وعنه، حيث يبدو من دون اعتماد منهج علمي أو فكري للتحليل، أو الغوص فيما أريد الوصول إليه، أو استنباط ما يحتاجه الواقع أو المبتغى المنشود  أو آلية منطقية سريعة، من خلال حضور النظرات المستقبلية التي تدعوهم للسير إليها بعد امتلاك الرؤى مستفيدين من المقدم من أجل تقديم الأفضل أو الانتقال إليه، وترجمتها بشكل يليق بالمتقدم عليهم، لا الاكتفاء بترديد ما رمي إليهم.
فحركة التطور يقودها رجالات يمتلكون قدرات خاصة، يكون على رأسهم قائد يلهمهم آليات التفكير والعمل النوعي والدقيق، فهو لا يريدهم إلا على شاكلته وصورته وخلفاء حقيقيين لا وهميين، فالخالق أراد من مخلوقه أن يكون خليفته وصورته وشكله على الأرض، طبعاً السواد الأعظم من خلقه لم يستطع أن يرتقي لما أراد، فبقوا مجندين له، معتقدين أنهم يقاتلون تحت اسمه، ومعتبرين أنه ضعيف، وهو مجموع القوى الفكرية التي تصوغ لهم  أنظمة وجودهم، عبدوه خوفاً وهو الحب والمحبة إرادتهم أن يحتجبوا عنه، ومختبئين خلف عباءاتهم من دون وعي لما يريده من دون أن يدركوا أنه أوجدهم من أجل خدمة بعضهم وتأملهم في وجوده ومصنوعه، إلا أنهم وأقصد السواد الأعظم من البشرية تمتعوا بلغة العبودية، ولم يصلوا إلى درجة الخشية التي تعلق بها العلماء، وهي أعلى مراتب الحب والأداء الإنجابي والإبداعي.
تضعف الأديان لحظة أن تتحول العبادات إلى عادات، ويغدو بذلك الإنسان مجوفاً، يحملها بالظاهر، يردد قيمها من دون العمل بها أو إدراك غايتها وأسباب وجودها، وكذلك تكون السياسة عندما يقدم القائد السياسي فكره، فيردده الآخرون من دون القيام بأي فعل تحليلي يفيدهم، ويفيد الذين يعملون معهم، وينسحب ذلك على الاقتصاد والعسكرة والمجتمع.
إنَّ وجود أصحاب عنواننا في زمن السلم لا يلفت النظر كثيراً على الرغم من ضرورة متابعتهم، السبب لبسهم للأقنعة المتعددة، وكشفهم ليس بالأمر السهل، لأن قدراتهم خلفها متعددة المهارات، ونفاقهم هائل، يقفون دائماً خلف أزمات الإدارة، حلولهم لا تتفق مع الكيفية التي تدار بها الأزمات، لأن الإدارات الجيدة تعمل حثيثاً ليل نهار لفك شيفراتها وإيجاد الحلول الناجعة لإنهائها، ولكن في زمن الأزمات والأحداث السياسية الكبرى لا يمكن السكوت عنهم، لأن أدوارهم تتشابه تماماً مع أولئك المرتدين أو الرماديين، وحتى الانقلابين، بحكم أنهم غير قادرين على تخطي الأنا الشخصية، هذا أولاً، ولعدم قدرتهم أيضاً بالوصول لمتابعيهم أبناء وطنهم ثانياً، الذين لهم الفضل الأول في إيصالهم إلى ما وصلوا إليه، وبالتالي يحكمون عليهم بأنهم المسببون الدائمون لاستمرار أزماتهم وللمآسي الاجتماعية والاقتصادية، والمعطلون للفعل السياسي الراقي القادم من قمة الهرم، والمعرقلون الدائمون لإحراز الانتصارات على جميع الصعد، بما فيها العسكري.
المردّدون يعتبرون كارثة المجتمعات والدول والأمم، حيث نجدهم متغلغلين بين قيادات منظومة العالم الثالث وإداراتها، يتشابهون مع المطبِّلين والمزمِّرين والنافخين في الأبواق؛ أي في الصور، كما أنَّ القيامة ستقوم، يدّعون المعرفة بالقرارات، ومعها يتوقعون المتوقع، يعتقدون بما يقدم لهم من المعتقد، يتحركون من مواقعهم ودنياهم، تؤمن بأنَّ هناك المنتظر منقذ الجميع، بحكم أنهم يقفون على حوافِّ المنتظرين، لغة نقرأ من خلالها فكرهم الذي لا يؤمن بالمستقبل، فهم يجسدون الماضي وصور غفواته وانفعالاته القائمين منها، ممسكين بنواصيها، يتشابهون تماماً مع أولئك المختبئين خلف أصابعهم خوفاً من أن تختبئ أصابعهم خلفهم، مهامهم معرقلةٌ لحركة التطور، توجهاتهم مسؤولة عن وضع الرجل المناسب في المكان غير المناسب، يرشحون بعضهم مستندين إلى حلول سابقيهم المتوافق معهم عليها، لأنه يُحافَظ على وجودهم من باب أن المتوافق أضعف، فيظهرون بعد رحيلهم أقوياء، كيف يحدث هذا؟ نعم يحدث من أجل إضعاف القادة العظماء والحكماء وتثبيط الهمم بدلاً من شحنها، هذا يتم بغاية إبقاء التخلف ولجم النمو وإضعاف الشعور الوطني، وعدم السير إلى الأمام، والارتقاء حضوراً بين الحضور، يصلون متأخرين، يخاطبونك بأنه من الأفضل أن تصل متأخراً على ألا تصل، والعقل المتطور يعكس المعادلة، ليقول من الأفضل ألا تصل على أن تصل متأخراً، لأنك إن وصلت متأخراً فلن تجد لك مقعداً، وفاتك الكثير، ولن تقدر حينها على تداركه، أو أنك تحت رحمة استجداء ما فاتك.
سيد الوطن يريد الانتقال بالدولة والمجتمع نحو الأفضل إلى المستقبل، لا يريد العودة إلى الوراء، يحتاج من يجسد رؤاه فعلاً وقولاً وعملاً، لا تردداً ولا ترديداً، كيف به يتقدم إلى الأمام ويجعل من جسده دريئةً، ومن فكره نوراً يضيء، وكيف بنا لا نكون إلى جانبه ونسير معاً مع ما يمنحه من ضوء ورسم للمسار والمسير؟ كيف به يلتقي أكثر من سبعين محطة تلفزة وصحيفة ومواقع تواصل اجتماعي، استقبل خلالها العدو لوطنه والصديق، وتعامل مع الجميع بحكمة، حمل إسفنجة الحكماء، امتصَّ الكثير من الأحقاد، وعصرها بعيداً في الظلام، وأجاب بحكمته وعلمه وهدوئه حتى على الوقاحات التي تضمنتها بعض الأسئلة، وقزّم بها السائل، ومن خلفه، كيف بنا لا نشاركه آلامه وأحزانه وصبره، وهو يقدم بشخصه الكريم وفكره العميق الذي يظهره كي نستفيد منه، لا أن نردده، كيف به لا يحزن وهو يرى المتقدمين في مجتمعه يستخدمون كلماته فقط من باب قال، ويروون عنه إبداعه أو إدراكه وإمساكه بخيوط اللعبة، لكونه لاعباً دولياً أكثر من مهمٍّ في حركة الحضور العالمي، وأنه ضمن الحلقة الصغرى والهرم المقدس، كيف بنا لا ندرك أنه أدار الوقت، بعلمية راقية وحنكة فائقة وصبر مؤلم قلما استطاع قائد تحمله، وأنَّ الذين راهنوا عليه سقطوا، واحترقوا من نار شمعته، التي أشعلها كي تنير لهم الرؤى الواقعية والمستقبلية، إلا أنهم استمروا في قناعاتهم التي لم تتقبل المنير، إلا أنَّ شعبه وجيشه والمخلصين آمنوا به، فعملوا تحت أجنحته التي حمتهم، فاستمروا، والشواهد أكثر من أن تُروى، ولذلك نقول: إن مجتمعات التقدم والتطور والإيمان تبني ثقافات الاعتراف والانتماء الحقيقي لواقعها ومستقبلها.  

د. نبيل طعمة