الإنسان والحياة

الإنسان والحياة

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٣١ يناير ٢٠١٧

لحظة أن يفقد الحب لجزئه ومحيطه، يخرج من مفهوم علاقته، فهل أراد القدر أن يخرجنا إليها، لنخوض صراع معاركها، ولنتأمل كيف به أنجزنا ذكراً وأنثى، وأودع فينا الخير والشر، الجنة والنار، البنّاء والهادم، إليك أيها الإنسان أخطُّ، وعنك أنسج، فأنت المحلى بعقود البنيان، والمميز عن سائر المخلوقات بأنواع العلوم والمعارف والفكر القادر على خلق الجديد في شتى مناحي العلوم وصنوف الحياة، لأنك خالق، تحيا تحت مظلة أحسن الخالقين، ومستكشف دائم لما خفي من فلسفة الدّيان، أنت الحامل لتراتبية الأمجاد التالدة والمبهر الطارف لأمامك صاحب المناقب البارقة، أنت الساطع في الحياة المشرقة أبداً مؤرخ القرون الخالية التي لا يخفى عليك منها خافية فريد المزايا الحسان، لأن نظمك رقيق، ومنثورك دقيق، وآثارك فاتنة، وأخبارك شائقة ومخيبة، إنك روض الحياة في رياضها، صاحب الجدل العنيف والعجول المريب والمخاصم اللدود المالك للقديم والجديد، تذهب إلى الأبعاد البعيدة بسرية وبصمت وعافية، وتغدو منهكاً خفيفاً كنفح الياسمين، تنضج كما الثمار، تتألم بإبداع سقوطها أو قطافها، ومثلها تكون نهايتك من أنت، ما حقيقتك تحمل حياتك وموتك، في جوهرك متعب من ضجيجك، تسيح حينما تشغل مكانك، غني وفقير أنت في آن، فقرك نور، وغناك ظلام، والعكس ينطبق عليك، أنت المدعي بأنك تعرف كل شيء، وفي لحظة غفلة منك تعترف بأنك لا شيء، محروم من كل شيء، يتوارى سوءك في عريك، لتغدو غريباً، يشعرك كل ذلك بأن لا مكان لك، حتى على وجهك يحدث هذا عندما تتخلى عن وجهك النوراني الإنساني لمصلحة بشريتك.

ألا تعتقدون معي أن الحياة لو مضت بنا هادئة رتيبة، وأضفت على جميعنا هباتها لما تغيرت معالمنا، ولا انطبعت مصائرنا بلون واحد بحكم تشابهنا، إنما وجدت كي تعطي هنا، وتسلب هناك، وتقدم للبعض الحب والأمان، وتضع العقبات والحواجز في طريق الآخرين، هو هكذا منطقها الذي يدعم غايتها، وعلى صخور هذا الصراع وجدت ديمومة الحياة والإنسان، تذهب بالكثير حطاماً، وتنتصر للحب في ضرام معاركها، حتى وإن دفعت في سبيل وجودها مادياتها الفانية.

أيها الإنسان المخلوق من البقاء والفناء، من الحب والأمل، من الجنون والفنون والمجون، من الضجر والقلق، من الجمال والسقم، من الغم والهموم والراحة والتعب، من الدعارة والشرف، محتل من غزارة أحلامك، مستعمرٌ من آلامك وأحزانك، مكتظ دائم بمحيطك، راقٍ في خلقك، بياض ذاتك يظهر صفاء إنسانيتك، تمضي بجهلك من المعلوم إلى الزمن المرقوم، بصمات أناملك تدل عليك، تفضحك عيناك، ماهر في إخفاء الفواجع المسكونة خلف ابتسامات الأمل، تقبض على جمار الغروب، يطفئها ظهور الشفق، كيف تنهار أصالة قوتك، كلما ازداد وجع العمر، وتراكم الضعف وتهديد دموعك الحبيسة التي تنذرك دائماً بقرب الخطر، وحدك تعرف قيمة الصدق وتبنيه بقوة يكسره تلاعبك برهبة القرار المجحف المغيب للحقيقة، حينما تتقطع سبل الصبر، ووصله يعني عودتك لفتح باب ثورتك الفكرية العميقة التي تقدم الأجوبة عن الأسئلة الهائلة.

أيها الإنسان البديع، لولاك لما كان هنا هناك، ولا فوق ولا تحت، ولما كان هناك مدادٌ لكلمات الله التي هي أنت، فأنت سيد مملكته وشفافية روايته الكونية، وحقيقة كليته، أودعك واقفاً دوناً عن مخلوقاته الدابة والزاحفة، الطائرة والسابحة، ومدَّ لك الأرض، بسطها ودحاها وجعلها مستلقية تحت قدميك، كي تسير أفقياً من أجل الالتقاء بمحيطك، هل سألت نفسك مرة، كيف يعمل ما بداخل جسدك المنتصب والمتحرك، وأنه يضم جنتك ونارك وأنهارك الأربعة، لينطبع عليها اسمك المتخصص بك، نقاشنا الآن يدور حول دورك بكونك إنسان الحاضر، والسيد المستمر أبداً، لأنك المتكاثر العامر، والقائد الماهر، والراعي الطاهر، والزوج العاشق، والرجل العاهر، وأنك الحضور والغياب، والسعادة والشقاء، الحي الميت، الجاني والمجني عليه، فيك يسكن اليسر والعسر، عين عقلك الخلاقة والمبدعة أبداً في منظومتي الخير والشر، تريك كوناً مستعداً ومنتظماً، كي تسرح وتمرح فيه، تمنحك نصيبك من المكان الموافق مع ذات نصيبك من الزمان، أما عين قلبك فؤادك الذي ترى فيه عواطفك نبضك، فإما أن يشقيك، وإما أن يسعدك، إلا أنه دائماً يبقيك بينهما، لذلك أدعوك لتكون معاصراً طور وجودك بالثورية السلمية، بالعلمية المؤمنة والعلمانية المنتجة، لا تلتفت إلى الوراء، اجعله أمامك، انتقِ منه ما يناسب مسيرك، استنر وأنت تصنع مستقبلاً ليس لك وحدك، إنما لمحيطك.

إنه أرادك شبيهه ونظيره على شاكلته، أرادك أن تكون هُو، وهُو أنت، فهل استطعت أن تكون شبيهه بديعاً وسميعاً ومصوراً وحليماً وقادراً قوياً متيناً جباراً، ومنتقماً قاهراً وجليلاً، وترك لك أيضاً أن تتبع إبليسه الذي وعده بإغواء جميع إنسانه، تركك أمام الاختيار، حيث يمكن لك أن تكون شيطاناً أو بديعاً معماراً، وهذا ما أسس عليه الإنسان الحامل للخير والشر، في داخله يسكن الإله والشيطان، فأيهما تختار؟ طبعاً نجحت إلى حدٍّ كبير، وفشلت في الكثير مما أطلقه من أسماء على ذاته التي أسكنها ذاتك، بنى معبده في داخلك، وجلس فيه جميلاً مصوراً وسميعاً تراه ينتظرك أبداً في جوهرك.

اسأل عقلك، ادخل عليه، وتجول فيه، من يهددك؟ لا أحد سواك، فأنت تهدد ذاتك أولاً وأخيراً، ينعكس تهديدك على محيطك، يعود لينثره عليك، فتقول: إنك مهدد، هلّا تفكرت أنك قادر على إبداع الكثير في الوقت ذاته، سلطتك إن تشيطنت باستطاعتها تدمير كل شيء، قتل كل شيء، كيف يحدث هذا وأنت البديع الوديع، الودود الحكيم، والشر المستطير، كيف بك تتعنصر على جنسك؟ كيف بك تتسور؟ كيف بك تقول: أنا لا أحتاج إلى أحد وأنت بمفردك، ومهما كنت قليلاً وضئيلاً، ولا تستطيع الحياة دوناً عن الآخر، كيف بك تقتل الآخر وتعتدي عليه؟ أيُّ أخلاق تناقلتها عبر التراكم التاريخي الذي حضرت منه؟ وأي دين اعتنقت، وعملت تحت مبادئه التي من المفترض أن تقتدي بها، أي صلاة تؤديها، ومن أجل ماذا، أو لمن تؤديها، وأي دعاء ترجو من خلاله الحفاظ على وجودك وبقائك وزيادة خيرك وحماية أبنائك، أيها الإنسان أنت عقدة الحياة، وبك يكمن حلها، لأنك أنت هي، وهي أنت، فلا تقتلها.    

د. نبيل طعمة