أمّة اللا أمّة

أمّة اللا أمّة

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٦ أغسطس ٢٠١٦

منقسمةٌ على ذاتها، شاردة تائهة بين التبعية للقوى الكبرى وأنا قادتها، وقادة مصنعين لأجلها، وتجار مساومين، لا أخلاق في أفعالها على الرغم من امتلاكها في مقدسها، لها شعوب غافلة ومغفلة، حاضرة وغائبة فيه وعنه، همُّها الوحيد طعامها، وماذا ستأكل في يومها، والجنس الذي تجني له، وهو أكبر همها، شعوب تنتظر الآخرة ومباهجها وما حرِّم عنها في دنياها، تطاحن قميء وتواطؤ بغيض على أمة صنعت مجدها، ودمرته بذاتها، قبل أن يدمرها الآخر، تغفله بين الفينة والأخرى، ولا تستثني منه حياتها، خاصتها جميع الفواجع والمواجع والآلام التي لم تقدها إلى الوصول إلى أحلامها، وكذلك إلى مفكريها ومثقفيها وعلمائها وأدبائها وكتابها، حيث ينالون الاعتراف من القوى البعيدة عنها، ولا يعترف بهم في أوطانهم، وبين أمتهم، الوطنيون الخلص المولعون بعشق أمتهم وأوطانهم، مبعدون أو مغيبون، الفاسقون الجهلة الخونة يقودون ثورات الشعوب المغفلة التي آمنت بالتدين الأجوف والتاريخ الشحيح، لأنها لم تستطع أن تدون فيها اسماً لوجودها الحي، الاضطراب لم يفارق عصورها وأزماتها، فلا وصلت إلى آمالها، وبقيت تحيا في آلامها وأوجاعها وأنينها الذي لا يسمعه منها أحد، كيف بنا نستصرخ الحياة فيها والنهوض والانطلاق، وهي متعلقة بالجهل والخرافة والعرافة، وتجيد فنون المكر ببعضها، والمراوغة في الأماكن المظلمة، وهي بلاد النور الإيماني والضياء الوجداني، كيف بنا نبعد كابوس الذل والغفلة عنها؟ كيف بنا نوقظها من سباتها، ونريها أن الحياة ماثلة أمامها، وأن هذه الحياة لم تخلق عبثاً، ولم تكن يوماً إلا من أجل الإنسان الذي تدعوه إليها، وأن عليه أن يخرج من منظومة القطيع والعبودية والرقيق إلى فلسفة العمودي المتحرك، كي يرى الآخر مبتعداً عن رؤية نفسه فقط.
أمة فقدت الإيمان بالإيمان والفنون، واتجهت للتديُّن وممارسة الفتن والمجون تحت مظلته، فقدت الحبَّ ففقدت معه إنسانها، أمة تؤمن بالقديم، وترفض الجديد أو القبول بالتجديد، أمة تنتظر المحن، تتمسك بالمآسي، وتقول عنها: إنها من صنع القدر وإرادته ومشيئته أن تحياها، ولا تسعى إلى الخلاص منها، أمة فقدت مقومات الحياة الثلاثة؛ الحب، العمل، إدراك مفهوم الوطن، تتمسك بالدعاء والرجاء، من دون التفكير في العبور مما هي فيه نحو الغد المسكون في المستقبل صاحب القدرات الغنية بتفهم الجمال والتغلغل في كنه المرئيات، أمة لا تشبه أيَّ أمة، وإذا أخذنا نماذج مثلاً الألمان، حيث تفوقوا على أنفسهم وعلى غيرهم لشدة وطنيتهم وإقدامهم على قتل أنفسهم عند الاضطرار إلى حفظ أسرارهم وأخبارهم وتاريخهم وصناعاتهم، ومن ثمَّ البريطانيون بعدهم لكثرة الاستفادة من قيم الأمم وأساليبهم في تطوير حضورهم عبر التجسس تحت مسمى الاستشراق، وتبعهم في ذلك الروس والأميركان والصينيون والهنود الذين ساروا على شاكلتهم.
أين هذه الأمة من كل الأمم، حيث مازالت غارقةً في سواد ليلها، لا تسعى وراء انبلاج نوره، فليس فيها قبس مضيء، والظلام يلف وجودها من المحيط إلى الخليج، أشادت إمبراطورية لم تستطع أن تحميها، وكان لتراجعها البغيض أن أنشأ عنجهيات وسلطات آمنت بالتراجع، وحكومات حكمها التعسف والاستغلال، عملت على تحطيم فكرة البطولات، وحولت الصبر إلى جشع، والحياة العسكرية والسياسية إلى خجل، وتاه أفضل الوطنيين بين الوطن والمواطنة، والالتزام والتقوقع والانعزال.
أمة كلما بزغ منها واع لإرادته ليجذبها إلى الأعلى، تداعت عليه كما يتداعى الأكلة إلى قصعتها، إرادتها إخضاعه لسباتها، وألا تجتمع على تدميره وتدمير بنيانه وأركانه وأركان وطنه، فهم كما الماضي آمنوا بالغنى الاجتماعي والتفرقة الطبقية والتناقض الصارخ بين حياة الطبقات المستَغَلّة والطبقات المستَغِلّة، إن ما يحدث لدى مجتمعاتنا ليس وليد ساعته، ولا هي حراكات مرتجلة دفعتها ظروف مستعجلة، إنما هي صراع التخلف مع التقدم، صراع الماضي مع الحاضر المتقدم إلى الأمام، هكذا تفعل أمة اللا أمة، كيف ببعضها يتقدم، تنظر إليه بعين التبصُّر، فتحيك له المؤامرة، فإما أن يستجيب لتخلفها، وإما مصيره الجهاد عليه، لماذا وهل تعتقدون أيها المتابعون والمراقبون لمسيرة هذه الأمة منذ عشرات القرون، كيف بها تنحدر، وأكثر من ذلك بدلاً من أن توقف الانحدار والانهيار، تتعلق به أكثر، وغايتها الوصول إلى القاع، لا ضير في ذلك، إن كان هذا القاع سيحدث القيامة الخلاقة، ويعيد لها الإيهاب والحضور والشموخ.
أمة تحاول أن تسطو عليها الأسر اللا وطنية؛ آل سعود، آل ثاني، آل جبر، آل الصباح، آل الحسين، آل الحسن، آل الحريري، مقابل أسر شعبية جماهيرية وطنية آمنت بحضورها، وجهدت إلى أن استبدلت في مجتمعاتها الأسر الوافدة عليها، التي مرت في تاريخها الحديث من آل محمد علي والباشوات، وآل القوة لي، وآل العظم، وآل أطاسي، وآل جيجكلي، وآل وآل ذوي الأنساب الطورانية العثمانية، أمام عوائل عبد الناصر وبومدين والأسد والبكر وبري والقسام والأطرش والخوري والأشمر، دققوا معي في المعاني والأنساب، مادامت هذه الأمة اشتهرت بتفصيل الحسب والنسب، فستجدون أن ما عنونته يقارب الصح، ويجافي إلى حدٍّ بعيد الخطأ، لأن هذه الأمة التائهة بين المذاهب والطوائف، لم تستطع حتى اللحظة أن يكون لها مرجعية تلمّها، ولا حتى تضامن يشفع لها، ولا مناهج تستعلي كعبها بها، ضائعة بين العلمانية والوجودية، بين الرأسمالية والاشتراكية، بين الإسلام والإيمان، أمة لم تؤمن بالتأمل الذي يؤدي إلى الإبداع، ولا بالفلسفة منبع العلوم، أمة آمنت بالتفلسف، وبأن كل شيء أبدعه العالم موجود في الحديث والقرآن، إذا اكتشف الآخر اتساع الكون والثقوب السوداء، قالت هذا لدينا منذ ألف وأربعمئة عام، موجود في القرآن والخريطة الجينية وتحديد الجنس والبناء والعمران، كل ذلك موجود في القرآن، أجل موجود ونعترف بذلك، ولكن لماذا الآخر استنبط واكتشف واخترع كل ذلك، ونحن مصرون على أنه موجود لدينا مذَّاك الزمان في الحديث والقرآن، أمة ظهرت من نبي ودين وكتاب مكنون وحديث بفضل دخولها على الأمم، جعل كامل الشرق الأدنى الذي أطلق عليه لاحقاً الشرق الأوسط تحت مظلته، وها هي تتفرق عائدة إلى ماضيها من دون أي بصمة في الحياة والتاريخ، باستثناء المؤسسين الحقيقيين الذين انطلقوا من دمشق، ومن ثمَّ بغداد، ولذلك نجدهم الحين يحاولون تدميرهم بتخلف لم يشهد التاريخ له مثيلاً، هذه أفعال أمّة اللا أمّة.
 د. نبيل طعمة