الإيمان بالشيء

الإيمان بالشيء

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ١٦ مارس ٢٠١٦

الكلي، المكون شيء، الأنثى شيء، الذكر شيء، الأمة شيء، والوطن شيء، وكذلك تكون الوطنية، ضمن هذه السلسلة جميع المتكونات مرت بمرحلة الشيئية، إلى أن تعرفت على وجودها، ومن ثمَّ بدأت بتعريف كل شيء وبشكل دائم، وهذا يدعونا دائماً للتفكير الجدي لفهم ما أردنا من طرح عنواننا الذي يحتاج دائماً من أجل تعريفه إلى قوتي الإحساس والإدراك الكامنتين في أعماق وجودنا المادي، وحينما نصل إلى الإيمان، بأنهما ستأخذان بنا إلى معرفته، فإنَّ هذا الشيء سيستجيب إلى ما نريد، وهنا تبدأ عملية تبادل الثقة التي تتقوى كثيراً بهما، ما يمنحنا الشعور بحاستي الطمأنينة والأمان اللتين تدفعاننا للتغلب على الرهبة والخوف والوساوس والألم، كما أنهما ترشداننا إلى سبل الواقع الحامل لكثير من الخطايا، فننعدل عنها، فإذا سألنا بماذا نؤمن، ولمن نتجه بإيماننا، وبشكل أدق ماذا نريد من إيماننا، وما الصورة التي تسكن في عقلنا الواعي؟ وإذا كانت الحاجات التي نطلبها شخصية أم عامة، تخضع بين التحقق وعدم الاستجابة أو الاستجابة الجزئية، فإن عقلنا الباطن يدرك توافرها من خلال عمليتي الصدق والكذب، والشك واليقين، وهذا مرتبط بجوهر الحياة القائم في فلسفة الإيمان التي أوجدها العقل ضمنه، كفكرة معتنقة تقرر مصالحه، يبني من خلالها علاقاته الاجتماعية والوجدانية، فالإيمان وجد في الأساس لخدمة الحياة، وتنظيم المجتمع، والارتقاء بالإنسان، ولو لم يكن لدينا الحياة لما كان أي من المعارف أو العلوم أو الأديان ظهر بالتجانس والاستمرار، كما أنَّ الإنسان بعقله المدرك استطاع أن يديرها، ويظهر قواه عليها أمام قواها، إلا أنَّ ظروفه تخونه في كثير من أوقاته، بعد أن تتنازعه العواطف التي تثور في عقله الباطن، فإن لم يستطع التوفيق بينها وبين عقلانيته يصبْ بالاضطراب، لتفقده توازنه، آخذة به إلى نظام المسايرة، وفقدانه لإيمانه بذاته وبوجوده، حيث يتحول بعد ذلك إما إلى تابع مريد، لما لا يريد، وإما يستحضر ما لا يريد، يطوِّعه ليغدو تحت منظومة أريد، إلا أنَّ الظروف تجبره على ممارسة ذلك بدراية منه، أو من دونها، وإما أن يأخذ الشكل الوظيفي لأداء المطلوب، حيث توظفه الظروف، ويصبح بها منفذاً، لا يمتلك أياً من حالات الإبداع؛ أي إنه يستكين لحالة الانتظام، ويفقد زمام المبادرة والجرأة معاً، من باب الاعتقاد بأن القلة تمنح الفرصة، والكثرة تفتقدها، أو أنها لا تمتلك قدرة الإمساك بخيوطها، لتبقى ضمن الانتظام وفلسفته الرتيبة التي تدعو إلى الشك بأن المكون الكلي مسؤول عن خلق سواد البشر فقراء عقل ومادة وندرتهم أغنياء، يتحكمون بمقدرات الكائنات والمتكونات، هل يمكن للإنسانية أن تؤمن بذلك، كيف يحدث ذلك؟
الإيمان بالشيء يحدث لحظة أن تتمتع لغة الإنسان بأجنحة صفاء الفكر، وإبداعات العقل، وامتلاك حاسة المنطق التي تؤدي إلى النطق السليم الذي يعرف قيمة مفهوم الحلال والحرام، يحولها إلى أفعال، يدرك من خلالها نوعية إنتاجه ومكتسباته، وحينما تظهر قيمة القامة وقوتها التي تخرج على الحياة شخصية متزنة أمام الآخر ومنسجمة مع ذاتها، تترفع عن الدون، وتتجه إلى الرفعة، ليكون مثلها الأعلى الحق المسكون في الفكر، وتستحق معه الحياة، نغوص في عوالمنا العربية والإسلامية، نبحث فيها، غايتنا معرفة بماذا تؤمن، لنجد أنها وحتى اللحظة ترزح تحت مفاهيم الاتكالية القادمة من تنوع الطرائق الدينية التي تعمق حضور الغيبية والانعزالية، وترخي عليها ظلال الظلامية التي تبثُّ فيها الخرافة والعرافة والشعوذة، وتدفع بها وبقواها الهائلة إلى الأسفل، وبدلاً من أن تذهب إلى معرفة الشيء وتعريفه، كما حدث مع ذاك الإنسان الموغل في القدم، والذي أسس لكل شيء، وعرفه من أجل الإيمان به، نجد إنساننا الحالي أمسك به، وهرول يدافع عنه، ليبقيه مظهراً دون تعريف للجوهر، وتستمر هكذا في حالة التجهيل لذاتها ووجودها، ودليلنا الدائم عدم الاعتراف بأننا لا نحترم الحياة، ولم نقم بتقدير القوى البشرية، ولم نؤمن بالتعاون الإنساني، وأن العالم كائن أزلي أبدي لم ينتهِ يوماً، ولم تنقطع الحياة منه، لأنه يؤثر في بعضه، ويتأثر بحكم حركة التاريخ التي يدونها الزمن، ولا يأخذ منها إلا ما استقام من الفكر والمنطق، على الرغم من تدوينه للأخطاء والقضايا التي أسهمت بشكل مباشر أو غيره في انهيار شعوب وأمم ودول وقادة.
هل يمكن للإنسان أن يؤمن بعدة أشياء غير معرفة، في آن يؤمن بالمكون صاحب العقل الكوني، وبالعلم وتخصصه به من أجل الإبداع، وبالمعرفة الابتدائية وآفاقها اللا نهائية، ويطورها بإنسانيته، وأنه متكوّن من أجل نظيره الإنسان المحيط به، هل له أن يؤمن بالانتصار واحتياجاته، والانكسار وأسبابه؟ كيف بنا نؤمن بالشعور العام الذي من المفترض أن يدعو دائماً إلى التفوق على الذات الفردية ومعاني صنع التحضر، وكيفية الارتقاء والتمسك بالكفاح البنائي، من أجل مقاومة الجهل والتخلف ضمن فلسفة الحياة، من دون الاعتداء على حقوق الآخر؟ كيف بنا نؤمن بأن الشرف يسكن الكلمة والحركة والفعل والإنجاز، وأنه لا يكون بين ساقي أنثى، والأنثى شيء لا يعني أنها فقط النصف، إنما تتماثل معه تماماً، وتبادلت عبر كل الحقب الأدوار بينها وبينه، ولندقق في أنَّ إناث الكلاب تقوم في حراسة القطيع تماماً أثناء غياب ذكورها؛ بل أكثر من ذلك، لينتفي معها مفهوم الذكورة الإلهية والبشرية والحيوانية والنباتية، ويتحول الكل إلى أشياء تحتاج إلى التعريف.
ضرورة الإيمان بالشيء الذي يتحول إلى كل شيء، وبعدها يغدو أنَّ ليس كمثله شيء، يؤدي إلى انتفاء الغضب وابتسام الانتصار وبذره على شفاه الأمل، تمتلئ رحابة الصدور بمشاعر الفرح، يتجه بعدها الإنسان كل الإنسان إلى دفن الحروب ونثر الأمان والسلامة على أنقاضها، تعود الحياة للانتشار بقوة تلذُّذ الذاكرة بتخلصها من تلك الأعباء المقيتة.
من كل ذلك نجد أنَّ الإيمان وحده، يأخذ بالعقل الإنساني إلى الارتقاء، والترفُّع عن صغائر الأمور، والتحوُّل إلى الإمساك بنواصي الحياة.
د. نبيل طعمة