تحرير العقل

تحرير العقل

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ١٣ يناير ٢٠١٦

مما نصب حوله من أشراك، وكبلته القيود التي تحكمت فيه، وانتشار العسس الافتراضي حوله الذي حدَّ من حريته وإبداعاته، وقبوله السكن ضمن أقبية وتوابيت، زنازين منفردة أو جماعية، يعود المنطق ليسأل عن سبب وجوده فيها، وأيضاً عن تلك الغفوات التي يستسلم لها، والماهية التي نكون عليها، وما الداعي لوجودها، وكذلك تناقضها مع الدعوات للسيطرة على الحياة المنفلتة التي تنادي جميع إنسانها إلى عقلها، والسؤال المتجول دائم بين تلافيف الفكر العاقل، يتحدث عن إمكانية الوصول إلى تلك القوى الخارقة والسيطرة عليها، أو شكم خيوطها الأولى، بغاية الوصول إلى الحد الأدنى من قدرات فهم نظم توليد تلك التي لا يستطيع كائن حتى اللحظة إطلاق تسميتها، طبعاً أقصد الروح، وفي المحاور العلمية يُطلق عليها الطاقة الذهبية المتكونة من تلك الوردة المتداخلة الدوائر، حيث يجتمع فيها تسع وتسعون دائرة، من دون قدرة الوصول إلى المئة، والمئة تجسد المطلق، والمطلق لا يقدر العقل البشري ولا الإنساني إدراكه، إنما يستطيع الوصول إلى الإحساس به، ليتشابه مع الحقيقة التي نقترب منها، من دون القدرة على الإمساك بها، ومنه ندخل إلى البحث الجدي عن العقل العلمي الذي يوائم بين الفكرة المادية واللامادية؛ أي الواقع والغرائز اللتين إن بقيتا منفصلتين أحدثتا الانهدام، وإن اتحدتا أنجزتا الإبداع وقواه الحية، وهذا ما يجسد لنا قيمة وقوة إفادة إنسانية الإنسان من هذه المعادلة التي تدعو إلى امتزاج الوعي الشخصي بالوعي الكوني، ومن جراء التقائهما تحدث لغة العقل العلمي الداعم للاشتغال واستثمار كامل القوى الداخلية ضمن الجسد الإنساني العملي الذي يؤمن بالموجود، وبالحسّ القادم من الحواس السبع؛ أي الخمس الملموسة زائد العاقلة والناطقة. هنا أتوقف هنيهة وأقول: متى يسجن العقل؟ وفي أيٍّ من الحالتين أي اللامادية أو المادية، والضرورة تتحدث دائماً عن اتحادهما؟ ومتى يتحرر؟ وعن الكيفية التي تتفكك بها قيوده، هل الخوف والرهبة ينبعان من داخل العقل؟ أم إنها تضغط عليه من الخارج المحيط به سياسة اقتصاد اجتماع أو نوعية الاشتغال، وما يشتغل عليه؟ لماذا ومن أجل ماذا يجري بين الفينة والأخرى منع أو إفشال أو تفشيل عملية تحريره، وعلينا التفكر ملياً في عمليات إعادته إلى نقطة البداية، فكيف بنا نكون على هذه الشاكلة؟
تحرير العقل العربي لا يتم إلا عند تمتعه بمفردة الجمال صاحبة علوم الحياة، والتي تشكل الأساس والرافعة معاً له، ومعها يتم فهم الكون ومكونه، ولذلك نجد أنه الكفيل المسؤول عن فهم آليات التمتع الروحي وتغذيته، ووحده بعد أن ينجز التحرر الفكري، يأخذنا إلى الإيمان الكلي، وتظهر المشاعر على جميعنا، نأتلف بها إلى التكامل، من دون التفات إلى أي تنافر، وبعدها تتطور آليات محاكمة الحدس والبحث العميق في نظم الإخلاص بالإرادة، وتظهر الطيبة الإيمان الحسن؛ أي إحساس بالرضى يحضر ضمن العقل، ينهي زنازينه، ويتحول من خلاله إلى إنسان محب للحرية، وملتزم بالقانون، إن علاقة الإنسان بالظروف التي ينشأ عليها، ترسم مساره المنفتح أو المعقد لحظة تقبل العقل لسجنه، أو رفضه، نسأله أنت وجدت من أجل الحياة، لا من أجل العيش، فأين حكمتك؟ وهل فقدتها في المعرفة؟ وهل أكملتها في البحث العلمي أو اكتشاف معلومة الواقع؟ يدعو العقل لتحليله مع الوقائع، يدرس أهميتها، تأويلها، أسبابها، مقتضياتها، يعالجها بحريته المنتجة من فعاليته، وحلول المشكلات لا تغدو أموراً للنقاش من جديد، إنما لتنفيذ المناسب منها، وإلا عادت إلى سجنها، وهنا إن حصل هذا تنغلق الحرية الفكرية على ذاتها، بعد أن كان من المفترض أن تتجه إلى الأعلى، وتتقدم بغاية الوصول للأهداف، فالقيم الإنسانية التي صنعها الفكر، ونظمها لتكون مبادئ سامية، تشكل المدماك الأول في نعش الالتباسات المركبة على الشؤون الإنسانية، وأهمها سجن العقل بغاية تحريره.
الإنسان كيفما كان فهو إنسان عاقل، يتخذ قراره كفرد تجاه فرد آخر إنسان عاقل مثله تماماً؛ أي المواجهة، أي مواجهة تحدث هي بين إنسان وإنسان، وهذا ما يشكل الغرابة والمفارقة الكبرى، فما الذي يقود إلى هذه المواجهة؛ النفوذ، الشراهة، الطمع، فلسفة البقاء للأقوى، الغنى، الفقر، الحفاظ على الممتلك، أم زيادته ومراكمته، وهناك النوع الأهم في المواجهة ألا وهي مواجهة الواقع والوقائع، وهنا يكون منطق القبول وتحديات الاختلاف، وبهذا التحدي هل تنفلت؟ هل تعود الأفكار إلى سجنها حتى وإن كانت عاقلة؟ فكيف بها إذا كانت غير عاقلة، لنبحث في منظومة الألم الأبدي الذي نطلق عليه الأخلاق التي صاغها العقل الطليق، والتي تتعلق بجمال الكون، وأطلق عليه الطبيعة وتعامله الرقيق أو القوي معها، وسياسات العقل التي أبدع من خلالها فكرة الأديان، حيث أعادته إلى سجنه ومحاسباته الذاتية التي كان لا بد لها من تأنيبه بشكل دائم شكله له الألم الأبدي، أو جحيمه الدنيوي ضمن فلسفة لغز الحياة الأعظم ومفتاحه الموت، وبينهما تقف تجربة العقل البناء والعقل المدمر الذي تظهر معه ومن خلاله دراما تتلاعب على مسرحها، أوضمن بقعة ضوئها المأساة والملهاة والمزيج الجامع لهما، ماذا يعني لنا الإحساس بأننا نمتلك أرضاً، وفي حقيقة الأمر تمتلكنا، تمنحنا هويتها، جنسيتها، اسمها الذي لا يمكن لنا أن ننسلخ عنه، إنما نتبدد ضمن رحلة مسيرنا عنها، وفيها نعود إلى أثيريتنا، ونسأل مرات ومرات: هل نحن نسجن عقلنا أم هو الذي يسجننا؟ هل نحن فيه أم هو فينا؟ ثمة إلحاح مهم نقاد إليه من يقودنا أو من نقوده؛ حرية العقل وتشكلها وعقلها وانفلاتها، شطحاتها، إبداعاتها، جنونها المتوقف على شعيرة دقيقة، إن سحبت حدث الخلط، وهنا يفتقد العقل قيمة وقوة انتظامه، فلا سجن ولا سجَّان يدخل ويخرج من دون رقيب أو حسيب، فمن هذا الرقيب؟ ومن ذاك الذي يحاسب على فائض حريته؟.
د.نبيل طعمة