الشرق الأوسط

الشرق الأوسط

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ٩ ديسمبر ٢٠١٥

مساحته حددتها لغته العربية وأقسامها المتفرعة منها ولهجاتها واختلافات النطق فيما بين سكانها؛ أي من كشمير الباكستانية الهندية، وصولاً إلى المغرب على المحيط الأطلسي، ومن القوقاز شمالاً إلى بحر العرب جنوباً، مروراً بكامل دوله، لم يتوقف عن مشاغلة العالم، من ذاك الماضي وصولاً إلى حاضره، والعالم يصرُّ على مشاغلته، فتسأل مجتمعاته: لماذا هذا الاستهداف الدائم، وهو بيد من؟ وجميع من فيه يعمل لمصلحة من، لشعوبه أم لأجندات تغطيه، ترفعه وترميه، تخفضه وتذله وتغريه، تأخذ به إلى فنون المراوغة، وتعيده إلى ذاته وحيداً، الأمم المتحدة ليس لديها أي شيء تمنحه له سوى التنديد أو التأييد لهذا الطرف أو ذاك، بحكم أنه منذ مئة عام، وحتى اللحظة، هو الشغل الشاغل للقوى العظمى المتناحرة عليه وضمنه، في السر والعلن، ترخي عليه كامل معضلاتها، وحتى أزماتها ترحلها، ومن ثمّ تراقب مجرياتها بدهاء شيطاني، وتحت مظلة ضخ إعلامي هائل ودعايات مضللة وهدامة، تسمم أفكار شعوبه، وتفسد مجتمعاته، ليذهب جميعنا ويدقق، والذي نكتشفه يدعونا لفرده ووضعه أمام الشعوب، كي يعي أين هو من الخريطة العالمية، سنجد أن عالماً مضطرباً وللمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، يشهد تطورات تخترق كامل بنيانه موجات سريعة ومتلاحقة من الرعب والعنف، تطول عالم الجنوب برمته، وبشكل خاص منطقة الشرق الأوسط التي يبث منها الإرهاب إلى عالم الشمال ضمن منظومة عملياتية دقيقة، تعيد رسم ما تحتاجه تلك المجتمعات بين الحين والآخر، والسبب الدائم يكمن في الحاجة الماسة لحياة الغرب والشمال الذي من دونه لا حياة له.
إن ضآلة العلم والمعرفة والخبرات التي يعمل العالم الأول على إبقائها ضمن حدودها الدنيا في عالم الجنوب، وتطويق عمليات الإفادة من مواردها المادية والفكرية والاقتصادية، والتلاعب الدائم بمنظومات القيم الروحية الإيمانية والدينية عبر تعزيز مفردات الطائفية والمذهبية والإثنية، وبث روح الأحقاد ضمنه وبين الدول المجاورة، والعمل الدؤوب على إبقاء جاهزية إحداث التفسخ الداخلي، من خلال تعميم نظرية الفساد المستندة على عاملي الروتين والرشوة، يبقي ويحمي ضمانات بقاء السيطرة لعالم الشمال عليه خفيةً وعلانيةً.
التغييرات الجذرية قادمة لا محالة، والعالم بأسره بدأ يسأل بتلهف عما يخبئه له المستقبل الذي لم يستطع أي أحد أن يملك معلوماته، باستثناء عمليات التخطيط لحضورنا فيه، كما أن جميع الدراسات تشير إلى تدفق المعلومات بشأنه، والتي تدلنا عليه من خلال زمني الماضي والحاضر المولدين الرئيسين عن فكرة تصور المستقبل الذي نتوقع أن يكشف لنا عن متغيرات هائلة، تخالف كثيراً من التنبؤات، وتنسف جُل المخططات، إن لم يكن جميعها، ما سيؤدي إلى ظهور ليس خريطة عالمية جديدة فحسب، بل ربما مجموعة خرائط.
الظاهر للعيان يؤكد أن كل ما يجري، يسعى الآن لهدم الأفكار العالمية القائمة، التي باتت تقليدية ومكشوفة، وما نراه من حالات تمزيق للشعوب، وَلَيِّ لإراداتها، واستلاب لحقوقها وحرياتها، ما هو إلا من أجل إعادة السيطرة عليها، بعد أن أرعبتها تطلعاتها نحو النمو والتقدم والبناء الذاتي الممنوع عليها ضمن أدبيات وسياسات عوالم الشمال، ومرة ثانية الذي يجري على جغرافية هذا الشرق الأوسط، والعربي منه بشكل خاص، ما هو إلا محاولات لإعادة استعباد العالم بأسره من جديد، من خلال حروب غريبة شعواء وخبيثة، تستثمر فيها المنظومات الدينية بشكل خاص التي انتشرت وطفت على السطح، من أجل ضرب المجتمعات مع مفاهيم الإيمان الصحيح الدقيق في التعاملات، وفرط عقد المنظومات الأخلاقية التي أتحدث عنها، ومهما حاولوا، فإنهم لن يقدروا على إفنائها والسبب الوجود المؤكد لساسة أخلاقيين، ومعهم اقتصاديون ومؤمنون، يصرون على حمل راية البقاء كمستقلين يملكون الحق، ويقبضون عليه بقوة نادرة، يتحدون به كامل قوى الشر والطغيان، وينجحون بصمودهم الاستثنائي وبثباتهم النادر.
إن استتار عالم الشمال خلف أصابعه، أصبح مكشوفاً، وكما تحدثت للسواد الأكبر من الشعوب، إلا أن مخططاته الخطرة وتلاعباته المغرية، مازالت مستمرة، ومؤكد أنها ستستمر، لأن غايتها الأولى والأخيرة اصطياد إنسانية الإنسان، ونهب أفكاره وخيراته، لذلك نجد أن التنبه إلى الأخطار من نتائج الأزمة التي يحياها الشرق الأوسط، من الضرورة بمكان، تدعونا إليها مجرياتها عبر فهم الأهداف المنشودة من إثارتها، وبقاء اليقظة لدى المستنيرين، فأبواب الحرب العالمية الثالثة بدأت تتحرك جغرافيتها، والتهابها وارد الحدوث، على الرغم من قناعة الأغلبية ببقاء كل ما هو عليه على حاله، وصحيح أنها مازالت تتراوح بين البرودة والفتور، إلا أنَّ التحريض على اندلاعها مستمر وبقوة، من باب أنه آن أوانها، كما أن المحرضين على الفوضى واللاعبين على حبالها، مازالت أياديهم مؤثرة في حراكها، لكنهم حتى اللحظة، لم يستطيعوا أن يحددوا شكل العالم، أو إلى أين سيصير، وصحيح أنهم رسموا له شكلاً حتى اللحظة، إلا أنهم وجدوا أنفسهم في مستنقع لوحته التي صاغوا ألوانها، ليعودوا من جديد، وليبحثوا عن كيفية الخروج منه، فعالم الشمال ممتلئ بالقوى العظمى، ما يدلنا على أنهم أصبحوا مختلفي الأهداف، وبشكل أدق، ليسوا يداً واحدة، إنما وصلوا إلى حدود التجرؤ على بعضهم بعضاً، وأكثر من ذلك استباحة وجودهم، ومن هنا أقول: إنَّ لا أحد يمتلك معرفة إلى أين يسير عالمنا اليوم، ولكن من المؤكد أن هذا الشرق سيغير وجهه ووجهاته، لذلك أجدني أرى أنه من المفيد إعادة تعويم فكرة المؤامرة الكبرى، والبحث في مدى تشعبها وتغلغلها في ذهنيات شعوبنا، على اختلاف وجودهم الطبقي، وإدراك خطورة هذا التغلغل الخفي الذي يرفضه البعض من المجتمعات، بل يتمسك بمقاومته ومحاربته من أجل إحداث التغيير.
السؤال المهم الذي يفرض نفسه هنا: من أجل ماذا ولماذا يحصل معنا ما يحصل ألا يدعونا كل ذلك للتوقف عنده؟
د.نبيل طعمة