لا تَدينوا لكيلا تُدانوا

لا تَدينوا لكيلا تُدانوا

افتتاحية الأزمنة

السبت، ١٩ سبتمبر ٢٠١٥

لماذا تنظر إلى القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟ لمَ لا تفتش وتنظر فيما تقوم به من أفعال ضد الآخر، وأفكار نرميها فتكون كل الأشراك؛ هل الغاية اصطياد الإنسان للإنسان؟ أولم يصنع هذا الكون من أجل محبي الحياة وحاملي وصايا التمسك بالحب وعناصر الجمال؟ هل الكليّ أعطانا العقل كي نقيّم به الآخر وندينه؟ أم إنه أعطانا إياه من أجل البناء والمساعدة والتطلع إلى إنسانية الإنسان المسكونة في حكمة العقل وإيمان القلب؟ ألا تعني الإدانة إلصاق التهمة بالآخر؟ كيف نحكم على الإنسان وندينه إذا كان بريئاً أو حتى متهماً، قبل أن تثبت عليه؟ لماذا تحول سواد الناس الأعظم إلى مسطحات ومساطح جوفاء؛ أي إلى أجران يخزن فيها فساد العقل بدلاً من حكمته، وظهر الكل للكلي لا عمق فيهم، وغدا الجميع ظاهرين وخارجين عن أفعال المنطق، وعندما يكون الكلي يحمل اسم الدَّيّان ويعني القهار، وأن ندين له أي نطيعه، ودِنت به اتخذته منهجاً في الحياة، أما الكيِّس من الإنسان، فذاك الذي يُدين نفسه أولاً وأخيراً، وهنا أقصد أن يحاسبها قبل أن يحاسب الآخر، فكما تَدين تُدان وكما تقدم يقدم لك.
لنفتتح بهذا العنوان المقدس بوابات الناس التي أغلقوها على أنفسهم، وذهبوا خلف بعضهم في رحلة الفرز والتقويم لأدائهم مستخدمين خلال عبورهم للغابية المسكونة في أعماقهم مفردات شائعة جرى توظيفها، ومن ثمَّ إرخاؤها على منجزاتهم، واستثمرها المسطحون فكرياً بغايات زيادة إشعال النار وصبّ الزيت على ما تحت الرماد، فأخذنا نشهد في زمن الكثافة البشرية والتكاثر والتناسل اللذين يؤديان إلى فتح القبور وزيادة المقابر من باب الالتهاء بتكاثر الجنس والمال التي جعلتنا نحتك ببعضنا، لتسبب الالتفاتات والتفتيش عن الآخر،  بسبب ضياع فهم الحياة وارتسام الخدوش على الأجساد التي تدعو لحكها من الفرد ذاته أو الأفراد، ومعها ينسى المرء ما يؤيده أو يتناساه لحين يطلبه، فيعلم قيمة ما فقد من وقت وفِكر، فلم تعد الغاية بناء الأفكار، إنما الأهداف سحبتنا للالتهاء والانشغال ببعضنا أكثر مما ينبغي، وكأن نهاية العالم اقتربت، أو بوق القيامة بدأ يرسل أنغام النهاية، فابتعدنا كثيراً عن التطلع إلى مُثِل الجمال، أو البحث عنه، أو اصطياده، من باب أنه المسؤول الأول والأخير عن رفع الذائقة الجمالية وتهذيبات السلوك وآداب العلاقات الإنسانية ومقتضيات الإتيكيت.
مجتمعات ارتضت أن تلبس لبوس النمّ والقدح والذم من دون مواجهة، حملت رصاصاتها وتهيأت لمطاردة بعضها، وغدا تافه الكلام يصدر من شفاهها، حملت شعارات لم تمتلك قيم حضورها، وأخذت بنعت بعضها بأسوأ الصفات، فهذا الذي يقول لذاك: إن فلاناً قال عنك كذا وكذا وكذا.. عارفاً عالماً، إماماً أو كاهناً، مفكراً أو باحثاً، مثقفاً أو أديباً فطرياً كان أو موظفاً أو مسؤولاً، الكل غدا يتسوق ويسوّق للادعاء.
أيُّ بشرية ظهرت من خلال عالم التسطيح والتسطح والعولمة واستغلال البضْع للكل، واستهلاك الكل لكل شيء، ناهيك عن تطور مفردات الإدانة  والتدين والدِّين والدَّين، فهذا يجلدك وذاك يسبُّك، وآخر ينعتك بالكافر، وبأنك أشِرٌ زنديق علماني ملحد زئبقي تسلقي انهزامي، وانبطاحي متلون، تابع وخائن معارض، وموالٍ سكّير ومقامر، زير نساء وداعر عاهر، مرتبط بجهات الحياة الأربع، بياع حكي، لا يمتلك من الأدب أو الثقافة أو حتى الفكر إلا عناوينها، وإذا ما حاوره أحدهم يسقط ذاك السقوط الذريع، وفي النتيجة يظهر الكل فارغاً أو خالي الوفاض، ومن الطبيعي أن يحدث كل هذا بين مجتمعات صورتها إدانة بعضها، تدعي الثقافة والعلم والتعلم والفكر والفلسفة والتفلسف على كل ذلك، من دون أن تمتلك العلم الحقيقي بها، أيًّ بناء يظهرنا كوجود ضمن خلقنا التكويني، وإن لم نكن خالقين ومستندين إلى الآية الكريمة تبارك الله أحسن الخالقين؛ أي إننا نحن أيضاً ممكن أن نكون خالقين تحت مظلته. أين الأخلاق المحددة للسلوك؟ من المسؤول عن وصولنا إلى هذه الحالة من التسطح الإنساني؟ وكأننا رسومٌ متحركة على شاشة، كما هو الحال في تسطيح الكوكب لحظة أن نرسمه على سبورة أو لوحة؛ فهل انسطحنا إلى هذا الحد؛ أي تمددنا على ظهورنا؛ فلا حراك لنا، ولا حراك سوى العنّ والأنين. لمَ لمْ نعد نتجه لبناء أفكار الحبِّ والألفة والتشوق والتلهف لبعضنا؟ وغدونا ملتهين بالانشغال والبحث والتقصي لنصب الأشراك والمكائد، نرميها يميناً وشمالاً، إلى الأمام والخلف، فيغيب عنا أنها ستصطادنا عاجلاً أم أجلاً، ما دمنا فكرنا في اصطياد الآخر من الإنسان.
لا تَدينوا لكيلا تُدانوا؛ قالها السيد المسيح، وفي قوله تعالى في متن الكتاب المكنون: أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (الصافات 53) أي مجزيُّون محاسبون، وفي العهد القديم مز 5:1، لذلك لا تقوم الأشرار في الدين ولا الخطاة في جماعة الأبرار. فمن ذلك علينا أن نستوعب الذي جرى على جغرافيتنا، وكيف بهم يروننا رسوماً مسطحةً، نتحرك عليها، ندفع ببعضنا للتقاتل وصولاً للغاية الخفية الحاملة لإنهاء وجودنا، لماذا؟ لأننا كنا قد بدأنا بالإدانة، ولم نعِ معناها، وها نحن الآن نحاسَب على ما خطّطنا له؟!!  
د. نبيل طعمة