من أجندة الاقتصاد العائلي منازل تحتضن مشاريع اقتصادية صغيرة… وإدارات نسائية تعمل بمنطق المهنة التجارية

من أجندة الاقتصاد العائلي منازل تحتضن مشاريع اقتصادية صغيرة… وإدارات نسائية تعمل بمنطق المهنة التجارية

أخبار سورية

الجمعة، ٦ مارس ٢٠١٥

الكثيرات، ولأسباب مختلفة، اخترن أن يكون منزلهن مكان عملهن الخاص، ربما هذا الاختيار كان نابعاً من أسباب أصبحت معروفة وأولها الفقر ذاك العدوّ اللدود الذي يقف متربصاً بشريحة معينة تحاول كل يوم هزيمته بشتى الوسائل حتى لو اضطر البعض منهن للقيام بأعمال بسيطة ومردودها لا بأس به لكنها تعيل عائلات بأكملها، فمن تقطيع الجزر والبطاطا، إلى فرم البقدونس، إضافة لفرط البازلاء والفول، يبدأ العمل الصباحي لبعض النساء المعيلات لأسرهن، فإحداهن تسعى جاهدة لتساند زوجها في البحث عن لقمة العيش، وأخرى وجدت في التعامل مع الخضراوات راحة أكثر من التعامل مع البشر والخدمة في بيوتهم.
هي قسوة الحياة لن ننكر هذا، وخاصة في هذه الظروف الصعبة.. فهل هذه الأعمال كفيلة بإنقاذ عائلات من الوقوع في شباك الفقر، وهل يتحول المنزل إلى مركز اقتصادي صغير؟.

نشاطات اقتصادية
تسميات كثيرة تطلق على هذه الأعمال وتختلف من شخص لآخر، فالعاملون فيها، وغالبيتهم من النساء، يفضلون تسميتها بالمهنة، لأنهم امتهنوها بالفعل وأصبحوا خبراء فيها، فهي كغيرها من المهن مع اختلاف بسيط في المكان وطبيعة العمل، هذا حسب رأي “هدى” الأم لثلاثة أطفال، فهي لم تلجأ لهذه “المهنة” ـ كما تحب أن تصفها ـ لأسباب الحاجة المعروفة فحسب، بل لأنها وجدت فيها تعريفاً عن شخصيتها، “هدى” تعتبر نفسها امرأة عاملة معيلة لأسرتها وليست عالة عليها، فهي تخرج من منزلها كما جارتها الموظفة، فالأخيرة تتوجه لمكان عملها أما “هدى” تقصد منطقة الشعلان وخصوصاً ما نسميه “سوق الأكابر” لتأخذ كمية جيدة من الخضار وتعود إلى منزلها لتبدأ يومها بتنظيف هذه الخضار وتقطيعها ومن ثم تغليفها في أكياس محكمة وتعاود إرسالها إلى أصحاب المحال الذين تتعامل معهم.

أصحاب الاختصاص
المختصون في مجال الاقتصاد ينظرون إلى هذه الأعمال على أنها نشاطات اقتصادية، وفي هذا تسمية علمية، ويدل على الاهتمام الذي تحظى به هذه الأعمال من قبل المختصين، فهي بنظرهم محاولات ناجحة لخلق عمل في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها بلادنا، ويؤكد الدكتور “هيثم عيسى” المحاضر في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق أن المنزل هو دائماً مؤسسة اقتصادية تعيل العائلة وترفدها بالدخل مباشرةً أو بشكل غير مباشر، فكل الأعمال المنزلية من غسيل وكوي وإعداد الطعام وتعليم الأولاد التي تقوم بها ربة المنزل هي خدمات اقتصادية، لو لم تقم بها السيدة لكان على الأسرة تأمينها عبر السوق، مما يستنزف بعضاً من الدخل الشهري للعائلة، إضافة إلى اعمال أخرى يقوم بها أفراد العائلة لأسباب عديدة ومنها أعمال تقام في المنزل وتتمحور حول المواد الغذائية وتأمينها بطرق معينة للزبائن، ومنها تحضير الخضراوات للطبخ وتجهيز المونة، وهذه ليست بأعمال جديدة، فقد ظهرت منذ فترة سابقة، ويمكن أن نضيف إليها بعض أنواع شك الخرز والتطريز والخياطة وصناعة المجوهرات البسيطة وغيرها.

الحاجة للعمل
وكما اعتدنا أن نقول: لقد تركت الأزمة التي تعاني منها بلدنا آثارها في كل مكان، ولعل الحظ الأسوأ يكون دائماً من نصيب الفقراء الذين اعتادوا على استقبال هذا الزائر الدائم لديهم، لكن أصحابها يصرون دائماً على مواجهته وإيجاد أعمال تتناسب مع قدراتهم وتسند حظهم العاثر… ومن وجهة نظر اقتصادية يضيف الدكتور “هيثم عيسى” أن سببين لا ثالث لهما يقفان وراء لجوء البعض للعمل بهذه الأعمال، الأول هو الفقر أو ما نسميه انخفاض مستوى دخل الأسرة وضعف قدرتها الشرائية إلى ما دون المستوى المطلوب لتغطية حاجاتها، والسبب الثاني والذي يُدعّم السبب الأول هو عدم وجود فرص عمل كافية يخلقها الاقتصاد الوطني أو وجود هذه الفرص لكنها تتطلب إمكانات ومؤهلات لا يمتلكها الأفراد، على سبيل المثال غالبية السيدات اللواتي يعملن في هذه الأنشطة هنّ إما غير متعلمات أو مستوى تعليمهن منخفض، وبالتالي حتى لو افترضنا وجود فرص عمل جيدة  فلن يكون بمقدور هؤلاء السيدات الاستفادة منها، وتضاف إلى ذلك، الراحة وعدم التكلّف في القيام بالأعمال التي تتم في المنزل، حيث لا تحتاج تلك السيدات إلى مغادرة منازلهن وتحمّل تكاليف النقل والمواصلات والغياب عن المنزل إلا لفترات قصيرة لاستلام وتسليم المواد.. و من حيث الانتشار (والكلام للدكتور عيسى) لا توجد احصائيات رسمية لمثل هذه الأنشطة، لكن المنطق والملاحظة المباشرة يقولان بانتشار واسع لمثل هذه الأنشطة في فترات الأزمات بغض النظر عن أنواعها.
كما ان هذه الأنشطة الاقتصادية جزء رئيس من فعاليات الاقتصاد المنزلي في الدول النامية بشكل عام، ويمثل الاقتصاد العائلي جزءاً لا بأس به من فعاليات الاقتصاد المحلي، ويجب أن تُسجل تلك الأنشطة في الاحصاءات الرسمية، لأنها عمليات إنتاج سلع أو خدمات تُسوّق عبر السوق، وهي تضيف قيمة جديدة إلى النشاط الاقتصادي في البلد، أيضاً في الاحصاءات الاقتصادية الرسمية للدول توجد فئة تُسمى “الانتاج من أجل الاستهلاك المنزلي” تُسجل فيها قيمة المنتجات التي تنتجها العائلات ولا تُباع في الأسواق وإنما تستهلك ضمن الأسرة.

زبائن من كافة الشرائح
ليس من الضروري أن يكون زبائن هذه المحلات من طبقة الأغنياء فحسب فأي امرأة عاملة قد ترغب أحياناً في الترفيه عن نفسها وعيش دور المدللة لو مرة واحدة في الأسبوع او مرتين كحد أقصى، فنسرين زوجة موظفة تعيقها وظيفتها أحياناً عن إعداد الطعام في وقته، وبحكم مرورها يومياً من منطقة الشيخ سعد بالمزة تغريها الخضار المقطعة بألوانها الشهية لتأخذ حاجتها وتكمل بها مسيرها إلى منزلها، هذه الحالة وغيرها كثير، ففي بعض الاوقات نرغب كنساء في ترفيه أنفسنا إذا لم نجد من يقوم بهذه المهمة التي باتت صعبة في ظل الظروف الراهنة.
ولكن خلال لقائنا مع بعض النساء الكبيرات في السن والخبرة الحياتية استشفّينا رفضهن التام لهذا النوع من العمل، وحسب قول “أم طلال”: “ليس هناك أجمل من متعة إعداد الطعام لعائلتي بنفسي، فعيني لا تطاوعني النظر لتلك الخضار الجاهزة على رفوف المحلات، ويدي تمنعني من شراء أي منها، كيف أشتريها ويداي خبيرتان في فن الطبخ على أصوله، لا عبر جلب كل شيء جاهز، ولا يتطلب سوى طهيه ووضعه على مائدة الطعام؟!”.

الحصة الأكبر
مع انتشار هذه المحلات لبيع كل ما يخطر على بالك من مواد غذائية جاهزة للبيع، ليس في منطقة الشعلان فحسب بل في المزة وباب توما وغيرها كثير، يشهد اصحاب هذه المحال إقبالاً كبيراً من قبل الزبائن على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية، لاسيما في شهر رمضان المبارك، ويحدثنا “أحمد الشاغوري” صاحب أحد المحلات التي تختص ببيع الخضار الجاهزة والمقطعة في منطقة الشعلان أن موسم الأعياد والصوم هما من أكثر الأوقات التي تزداد طلبات الزبائن فيها لتأمين حاجتهم، بدءا بالخضار المعدة للطهي، إلى ورق العنب الجاهز، وحتى الكوسا المحفورة، وكل ما يطلبه الزبون نحاول جاهدين ان نؤمّنه له عبر النساء اللواتي نتعامل معهن، ويقمن بإعداد موائد طعام تحتوي على ما لذ وطاب.
ويضيف الشاغوري: “إننا نحرص على اختيار العاملات لدينا بكل حذر ودقة، مع التقيد بشروط النظافة في التعامل مع المواد الغذائية التي نقدمها للزبائن، فالطعام لا يمكن العبث في نظافته أو مكوناته، ونظافة طعامنا هي من نظافتنا الشخصية”.

عملنا هو هويتنا
لا نستطيع رفض ما تكتبه الحياة لنا، هي أقدارنا، بعضنا قدره أن يحتل أرفع المناصب، وبعضنا الآخر نال حصته من الشقاء والتعب، فأياً كان العمل الذي نقوم به فجدير بنا أن نفخر به، وأن نمشي رافعي الرأس، لأننا لم نستسلم للفقر، وحوّلناه بإرادتنا إلى دافع لتحسين أوضاعنا وانتشال أرواحنا من حالة اليأس التي تفرض علينا يومياً، ولعل هذه الأعمال التي تحدثنا عنها لا تعيل عائلات فحسب، بل إنها تمكّن أفرادها من الذهاب إلى مدارسهم، وتحمّل مصاريف الجامعة لبعضهم، وربما لولاها ما دُفعت آجارات المنازل للبعض الآخر، ومهما كان نوع العمل يكفي أنه يمكّننا من العودة إلى منازلنا حاملين ما نسد به رمقنا ونكمل به يومنا.

نيرمين ماهر