من ينفض عنها ركام النسيان والإهمال … الاختراعات الوطنية.. إبداعات وطاقات تنتظر الدعم واستثمار العقول “فقاعة إعلانية” ليس إلا

من ينفض عنها ركام النسيان والإهمال … الاختراعات الوطنية.. إبداعات وطاقات تنتظر الدعم واستثمار العقول “فقاعة إعلانية” ليس إلا

أخبار سورية

الأحد، ١٨ يناير ٢٠١٥

“إن لم نمتلك القدرة على تمويل ابتكاراتنا بأنفسنا، ستبقى حبيسة الأدراج، لا تبصر النور، ولا يعلم أحد عنها شيئاً”، بهذه الجُمل وغيرها عبّر أحد المخترعين السوريين عن مرارته وألمه وإحباطه من الظروف القاسية التي يعيشها هو وزملاؤه، وعدم اهتمام ولامبالاة بعض المعنيين بالأمر، وطبعاً هذا الكلام ينبئ عن الحال التي آل إليها المخترعون، وفي الوقت ذاته يحض المهتمين بشأنهم على التقصّي والبحث عن الحلول الناجعة الفعّالة، كما أنه يعرض الكثير من التحديات والأسئلة، لعل أبرزها: لماذا لا يحصل المخترعون السوريون على الرعاية والمكانة اللتين يستحقونها بجدارة ؟ خاصةً أن العديد منهم نال ميداليات ذهبية وجوائز هامة في معارض عالمية، وهل من المنطق والإنصاف ألا يتمكنوا من استثمار اختراعاتهم وتصنيعها إن لم يمتلكوا ما يلزم من الأموال ! ولماذا لا تتوفر مراكز أبحاث ومكاتب علمية يقع على كاهلها تحمّل هذه المسؤولية الوطنية الكبيرة، متمثلة بتمويل ابتكاراتهم وتنفيذها وتحويلها إلى واقع !؟

استثمار العقول
المخترعون يشكّلون ثروة فكرية معرفية هائلة لا تقدّر بثمن، تتسابق الأمم والدول على اقتنائها وتطويرها والتباهي بها في المؤتمرات والمعارض العلمية الدولية، ولهذا يسعى “الغرب” لتصيّدهم و جذبهم إليه، والاستفادة من عقولهم النيّرة وخبراتهم وكفاءاتهم، وتقديم العروض المغرية المتتالية، وكل ما من شأنه الإسراع في هجرتهم من بلدهم .
وفي جلسة حوار جمعتنا مع الدكتور. محمد إبراهيم وردة رئيس الجمعية الوطنية للاختراع والبحث العلمي والمخترعين عادل مهنا، الياس بريمو، نزار شغليل، تحدّثنا فيها عن معاناتهم وهموم زملائهم، والمصاعب التي تعترض مسيرتهم الإبداعية، والأمر اللافت للانتباه والمحزن في الوقت نفسه هو القصص الإنسانية المؤلمة التي يجسّدها المخترعون الثلاثة وغالبية زملائهم، فجهودهم وطاقاتهم وابتكاراتهم ضائعة في مهب الريح، تنتظر من يعطيها المكانة العالية التي تستحق، ويستثمرها ويحوّلها إلى إنجازات ترتقي بالوطن والمواطن، بدلاً من بقائها براءات اختراع ليس إلا.
دعم الاختراعات
حقائق مؤسفة تلك التي لفت الانتباه إليها رئيس الجمعية الوطنية للاختراع والبحث العلمي د. محمد إبراهيم وردة، عندما تحدّث عن أن عدد براءات الاختراع الممنوحة في سورية منذ استقلالها حتى نهاية عام 2013 لا يتجاوز /1500 /وأن ما تخصصه الحكومة لدعم وتشجيع الاختراعات لا يعادل /0,001/ ممّا توفره لدعم الموسيقى والرياضة والفنون والسينما، والذي يثير القلق والعجب في آن معاً هو ما تطرّق إليه بشأن عدد مشاريع التخرج لطلاب الكليّات والمعاهد الهندسية والعلمية والتطبيقية في سورية الذي يفوق /25000/ سنوياً، لكنّ عدد براءات الاختراع الناتجة عنها لا يزيد على /25/ أي بمعدل /001,0/ في حين أن وحدة إنتاجية مؤلفة من الطلاب ومشرفيهم في أحد أقسام كليّة فنلندية استطاعت تحقيق 30 % من الدخل الوطني لـ فنلندا، وأشار أيضاً إلى أن عدد براءات الاختراع الممنوحة في اليابان الدولة الرائدة صناعياً وتكنلوجياً عام 2002 بلغ خمسمئة ألف، بينما وصل عدد براءات الاختراع الممنوحة في سورية للعام ذاته إلى /68/ .

بحثاً عن التمويل
ورأى د.وردة أن زملاءه يفتقدون للدعم والتمويل الضروريين لتحويل براءات اختراعاتهم من أوراق إلى إنجازات، وأنهم لا يتمتعون بالبيئة المناسبة للإبداع والبحث العلمي التي تحفّز على الابتكار، وعرض رؤاه وأفكاره بشأن الارتقاء بعملية الاختراع والحلول التي تضع حداً لمعاناة زملائه، فأوضح أهمية إحداث شراكة حقيقية بين القطاع الصناعي والجامعات، وأن تكون مشاريع تخرّج طلاب الكليّات العلمية حلولاً لمشاكل صناعية وتقنية تعاني منها مؤسسات ومعامل الوطن، وأن تفتح الأخيرة أبوابها لهم أثناء قيامهم بإعداد مشروع التخرج، ممّا يمكّنهم من الحصول على براءات اختراع ستوفر على سورية – عند استثمارها – الأموال الطائلة، ذاكراً أن قطع الغيار المصنعة بيد سوريّة ستوفر 90 % من تكلفة استيرادها، وواصل: والأمر الذي يضمن لمخترعي الدول المتقدمة استثمار ابتكاراتهم وتنفيذها هو عملهم ضمن فرق علمية تابعة لشركات ومؤسسات، على عكس ما هو حاصل لدى المخترعين السوريين الذين يعملون بشكل فردي ، مفتقرين إلى الدعم المطلوب والظروف المواتية، وبالتالي تبقى أبحاثهم مجرّد حبر على ورق، لذلك ينبغي على القطاعين العام والخاص عرض مشاكلهما الصناعية والتقنية على المخترعين وطلاب الكليّات العلمية وتشكيل فرق علمية مكوّنة منهم، ومن المهم للغاية أيضاً وضع استراتيجية حكومية متعلقة بدعم المخترعين، وإحداث “الهيئة العليا للاختراع”، على أن تتبع لرئاسة الجمهورية أو مجلس الوزراء.

بعيداً عن الاستثمار
يتحمّل بعض المخترعين السوريين شيئاً من مسؤولية بقاء ابتكاراتهم بعيدة عن الاستثمار والتنفيذ، حسب ماقاله لنا د. وردة، الذي أكد أن 5 % فقط من اختراعات زملائه تم تنفيذها، معللاً ذلك بسببين الأول يتمثل بافتقادهم الدعم والبيئة المواتية كما سبق ذكره، والسبب الآخر هو قيام بعض المخترعين بإيجاد مشكلة ما وابتكار حل لها، فيحصلون بذلك على براءة اختراع لا علاقة لها باحتياجات المجتمع ومقتضيات الحياة ولا تشجّع القطاعين العام والخاص على استثمارها،، كأن يبتكر أحد الأشخاص سيارة تستطيع السير على سكة حديدية، ومثل ما هو معروف لا توجد في سورية سكك حديدية للسيارات، وإنما للقطارات فقط.

مع إيقاف التنفيذ
يتميز الباحث والمخترع عادل مرعي مهنا بتنوع وغزارة ابتكاراته وإبداعه وتناوله مجالات شتّى مختلفة، فسجله العلمي والبحثي يتضمن 40 مشروعاً، من أهمها تطوير لـ مظهّرات ومثبّتات أفلام صور الأشعة RAY FD2 X المستخدمة في المستشفيات، ومظهّرات ومثبّتات للأفلام الطباعية المستعملة في المراكز الطباعية، وصناعة الأحبار الطباعية السائلة والجامدة، والنقل الآلي للصور الغرافيكية الملونة الذي يستخدم في تزيين الألواح والقضبان المعدنية، وصناعة المواد اللاصقة السائلة والجامدة والحرارية، التي تستعمل بالمطابع والمدارس والمهن، فضلاً عن إنتاج كريمات بشرة وأطعمة لأسماك الزينة، وسكاكر وراحات وشوكولا رديفة للعلاج، وألوان خاصة بالرخام والخشب والمعادن، وصابون وشامبو مصنوعين من الأعشاب والعسل. كما أنه ابتكر تقنية التصوير في الظلام التام، مستخدماً فقط الطاقة الصادرة عن الجسم البشري، واستطاع التصوير بكاميرا دون عدسة.
ورغم سجله الحافل بالمشاريع البحثية والابتكارات، إلا أنه لم يحظ بالدعم المادي والمعنوي الذي يستحقه، وبقي مدفوناً تحت ركام النسيان واللامبالاة، وعندما سألته عن واقع الاختراعات في الوطن، أجاب: لقد صدرت قوانين وقرارات عديدة من أجل تشجيع وتحفيز المخترعين على الإبداع والعطاء، لكن لم يستفد منها إلا قلة، فبعد مرور عام على صدورها، توقف العمل بها، نتيجة الإهمال وعدم الاكتراث بشؤون المخترعين، إضافةً إلى افتقاد الحكومات المتعاقبة لاستراتيجية واضحة المعالم خاصة بدعم الابتكارات، ومن هذه القرارات والقوانين المرسوم /1715/ لعام 1977، المتضمن منح مكافآت لعاملي الدولة عند قيامهم بالاختراع، والقرار رقم /160/ الصادر عن وزير الإعلام الأسبق عام 1995، الذي يتيح للمخترعين السوريين المعتمدين من الجهات المختصة الإعلان عن ابتكاراتهم في الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة مجاناً 12 مرة سنوياً لكلّ اختراع، وهناك أيضاً القانون الأساسي للعاملين في الدولة رقم 1 لعام 1985، إذ تنص المادة 29 على حق المبدعين بالترفيع الاستثنائي، الذي لا يقل عن 6% ولا يزيد عن 24 % من الراتب الشهري.
كما تناول مهنا القرار رقم /962/ الصادر عن وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية الأسبق عام 1995، الذي ينص على تقديم قرض للمخترعين السوريين يبلغ مليون ليرة، مبيّناً أن الوزارة المذكورة تتعامل معهم وكأنهم من أصحاب الأموال الطائلة، دون مراعاة الأوضاع المادية الصعبة لغالبيتهم، وأنهم لا يمتلكون إلا أفكاراً وعقول رجال مجتهدين ورؤى مستقبلية طموحة، وأضاف: وعند تأخرهم عن سداد سندات القرض، يتم الحجز على أملاكهم – إن وُجدت – دون إجراء تسوية لذلك، ويضطرون لدفع غرامات مالية، قد تصل إلى ضعفي مبلغ القرض، لكنّ الأمر الغريب في الموضوع واللافت للاهتمام بشدة هو أن القرض ليس إلا /740/ ألف ليرة، بينما المبلغ الشائع إعلامياً هو مليون ليرة.

مبدعون لكن ..
يعتصر قلب مهنا كمداً وحزناً على الحال التي صار إليها هو وباقي زملائه، فظروفهم المعيشية صعبة ، ويفتقرون إلى التقدير والاهتمام اللذين يستحقونهما، وبقاء الكثير من براءات اختراعاتهم منسية بعيدة عن ميدان الاستثمار والتنفيذ، وقد سرد قصصاً عديدة مؤلمة عايشها زملاؤه وهموماً ومعاناة تعرّضوا لها، فأشار إلى أن أحد المخترعين ضجرت منه عائلته وتخلّت عنه، وملّت الوضع التي هي عليه، بعد انصراف معيلها إلى أبحاثه وابتكاراته، التي أعيته بنفقاتها الكبيرة، ولم تطعم ذويه وتسد رمقهم واحتياجاتهم، ولفت الانتباه إلى أن مخترعاً آخر اضطر إلى بيع بيته لتمويل نفقات ابتكاره، آملاً حصوله على الأرباح الطائلة بعد استثماره، لكنّ ثمن منزله لم يكفِ لتمويل مشروعه، فكانت النتيجة خسارته الاثنين معاً.
واختتم حديثه بالإشارة إلى امتناع المخترعين أصحاب الابتكارات الكثيرة عن تسجيلها كلّها لدى دائرة براءات الاختراع، بسبب اضطرارهم لدفع رسوم تسجيلها سنوياً وازدياد هذه الرسوم سنوياً، ومع الكم الهائل من الأبحاث يصبح المخترع غير راغب في تسجيلها جميعاً، وبالتالي تضيع جهوده سدى.
وعلمنا أيضاًأن مهنا رفض عرضاً مغرياً عام 2007 قدّمته شركة “إينوفيتيف برودكتس فور لايف” الكندية المتخصصة باستثمار الابتكارات والبحوث العلمية، التي عرضت عليه شراء براءة اختراعه المتعلقة بتحميض وتثبيت فيلم الصور الحساس المسمى “ديف فيكس” مقابل مئة ألف دولار كندي، إلا أن رغبته في استفادة وطنه من اختراعه، وبقاء المشروع باسم مخترع سوري، منعه من الموافقة.

سرقة الابتكارات
معاناة المخترع والباحث الياس بريمو لاتختلف عن زملائه فهو يؤكد على أن العشرات من مشاريع براءات الاختراع السورية سُرقت وهُرّبت إلى خارج الوطن، وأن الكثير من زملائه يحجمون عن تسجيل ابتكاراتهم والحصول على براءات اختراع عنها بسبب ذلك، لافتاً الانتباه إلى أن اضطرار المخترعين لتقديم شرح كامل عن أعمالهم أثناء تقديمهم طلب الحصول على براءة الاختراع، واضطرارهم أيضاً لعرضها على أكثر من جهة معنية، بدءاً من لجنة تقييم الاختراعات، وصولاً إلى لجنة أخرى في الجامعة، وانتهاءً بلجنة تقييم الاختراعات.
وكل ما سبق يؤدي وفق بريمو إلى تزايد مخاطر تعرّض ابتكاراتهم للسرقة، مشيراً إلى أن العديد من زملائه الذين سُرقت أو قُلّدت اختراعاتهم، امتنعوا عن اللجوء للمحاكم، بسبب إجراءات التقاضي طويلة الأمد، التي تتطلب نفقات كبيرة، وتنتهي في معظم الأحيان دون جدوى.
وقد كشف استبيان تم توزيعه على 100 مخترع سوري أن 35 % منهم تعرّضوا لسرقة ابتكاراتهم أو تقليدها، مبيّناً إحجام 23 % من هؤلاء المخترعين عن اللجوء للقضاء، بينما فعل ما نسبته 12 % ذلك، مثل المهندس هيثم علايا المخترع في مجال البرمجة والآلات الثقيلة، الذي أمضى سبع سنوات في المحاكم لمقاضاة شخص قلّد اختراعه، لكنّ إجراءات التقاضي المكوكية كانت مخيّبة للآمال، فقد أسفرت عن حماية جزئية لابتكاره وعقوبة ليست رادعة، تتمثّل بغرامة قدرها مئة ألف ليرة، وفقاً للمادة /100/ من المرسوم 47.

دور غائب
يعمل المخترع بريمو منذ 25 عاماً في إنتاج الماء المقطّر المعالج فيزيائياً والخالي من الشوائب، الذي يتميز بدرجة نقاء عالية، ويستخدم في المجالات العلمية والمخبرية والزراعية والصناعية، ويمتلك الباحث ثماني براءات اختراع، خمس منها في مجال تقطير المياه، والأخرى هي السخان الشمسي المدمج، ومبدأ بوردون للتحكم هيدروفور، وفلتر السلامة لحماية المدخن والبيئة.
وعندما سألته بشأن مدى تمكّنه من استثمار جميع ابتكاراته، أجاب بالنفي، موضحاً أن السوق موصد أمامه وأمام زملائه، ويستلزم دخوله توفر التمويل والدعاية، وهو ما يفتقده معظم المخترعين، ورأى أن رجال الأعمال القادرين على دعم وتمويل البحوث العلمية والاختراعات لا يسعون إلا باتجاه سلعة رخيصة الثمن ذات ربح سريع وكبير، أمّا المعايير الفنية التقنية والصحية فهي آخر همّهم.
وتحدث بريمو عن اختراعيه، مبدأ بوردون للتحكم هيدروفور، والسخان الشمسي المدمج، فذكر أن الأول هو أسلوب جديد للتحكم بضغط السوائل آلياً، وأن الثاني يتميز ببدء دوران التيارات الهوائية داخله منذ الدقيقة الأولى لدى تعرّضه لأشعة الشمس، بخلاف الأجهزة الأخرى التي تبدأ التيارات الهوائية بالدوران فيها بعد ساعة ونصف، واختتم حديثه بالإشارة إلى أنه بصدد اختراع جهاز لقياس نقاوة الماء، له شكل وحجم القلم.

الأوفر حظاً
لعل المخترع نزار شغليل أوفر حظاً من زميليه، فقد تمكّن من استثمار ابتكاراته وتصنيعها والاستفادة مادياً منها، إذ استطاع تأسيس شركة تصنع الأجهزة البخارية الالكترونية وتبيعها، بعد أن كانت بداياته في مصبغة لكوي وتنظيف الملابس، وقد حاز على أول براءة اختراع سوريّة في هذا المجال، و3 ميداليات ذهبية في معرض الباسل للإبداع والاختراع، وعلى الميدالية الذهبية للمخترعين السوريين عام 1996، لكنّ أحداث وظروف الأزمة الراهنة كانت له بالمرصاد، فقد سلبت منه كل ما جنته يداه طوال عقود من العمل الشاق الدؤوب.
وبشأن ابتكاراته والحلول الميكانيكية التي قام بها بيّن أنه استطاع تطوير المرجل البخاري اللامركزي “الشودير”، وجعله يعمل بواسطة الطاقة الكهربائية بدلاً من الكاز كما كان سابقاً.
وتمكّن من اختراع مرجل بخاري يعمل باستطاعتين مختلفتين، مزوّد بـ وشيعتي تسخين وأجهزة تحكم وحماية، ومقياس خارجي لتحديد كمية الماء الموجودة داخله، وابتكر دارة الكترونية موصولة بجهاز حساس موضوع في المرجل، مهمتها إعطاء أمر لمضخة خارجية كي تدخل الماء للمرجل لدى انخفاض منسوبه، وعندما يصل الماء للمستوى المطلوب، توقف الدارة عمل المضخة، وتقوم بإيصال التيار الكهربائي للوشيعة من أجل توليد البخار، مواصلاً: وصنعت أيضاً أجهزة تدفئة وطاولة كوي ذات محرك توربيني يضخ الهواء ويمتصه، ومرجل بخاري مخصص لـ الكوي في المنزل، وآخر يستخدم في المصانع، ترتبط به ثلاث مكاوٍ أو اثنتان، وابتكرت أيضاً مكبس إلصاق حراري، يعمل بقوة ضغط زيت الهيدروليك، ويمكن التحكم به آلياً عبر دارة الكترونية صممتها، التي تتسم بمميزات فنية تجعل الدارة تتفوق على مثيلاتها في السوق الأوروبية بشأن إمكانية التحكم بأجزاء من الثانية، وكل ما أنتجته الشركة تم تصنيعه بكل المواصفات والمقاييس، ووفقاً لراحة العامل واحتياجاته، وقبل توقف الشركة عن الإنتاج، كنا بصدد صناعة مراجل بخارية تعمل بواسطة جهاز تحكّم عن بعد، وأخرى تعمل بالغاز دون الكهرباء.

مفارقة مؤلمة
نادراً ما يحظى المخترع بالتقدير والدعم اللذين يستحقهما، بل يتعرّض أحياناً للسخرية من قبل بعض المعنيين بالأمر، الذين ينظرون للمشاريع المقدمة لهم على أنها لا ترتقي لمفهوم الابتكار والإبداع، في حين عندما يُعرض العديد من هذه الأفكار في معارض عالمية، نراها تحوز على ميداليات ذهبية وجوائز هامة، ولدى اطلاع منظمات وشركات علمية دولية عليها، تنال الرعاية والتمويل، وهناك حالات عديدة تشير إلى هذا الموضوع، وقد ضرب شغليل مثالاً على ذلك بما حدث مع المخترع عرفان كركي الذي قدّم مشروعين للجنة تقييم الاختراعات، أحدهما هو فرشاة أسنان تتلون أثناء تنظيف الطفل لأسنانه، بغية تشجيعه على القيام بذلك، أمّا الآخر فهو جهاز الكتروني صغير الحجم قليل التكاليف، يوضع ضمن الحقيبة المدرسية التي يحملها الطالب على ظهره، ويقدّر وزن حمولتها الملائم صحياً، وفق طول الطالب ووزنه، ويضمن ألا يزيد ثقلها عن 10 – 15% من وزن الطالب، وعندما تتجاوز حمولة الحقيبة النسبة المئوية المحددة، يصدر صوتاً للتنبيه، كما يستفاد من الجهاز بطريقة أخرى تتمثل بإدماجه ضمن حقائب السفر لمعرفة وزنها، وأوضح شغليل أن كركي عندما عرض الفكرتين على اللجنة المذكورة، أجابته بأنهما لا ترتقيان لمفهوم الاختراع والابتكار، في حين عندما اطّلع رئيس جمعية المخترعين الهولنديين عليهما – منذ 10 أعوام أثناء دراسة كركي في هولندا – أُعجب بهما، ومنحه براءتي اختراع عنهما، وجائزة الإبداع عن ابتكاره جهاز الوزن المدمج في الحقائب.

الاستثمار في الإنسان
كثيراً ما نسمع أن أحد المبدعين السوريين – الذي شهدت له الأيام بالعبقرية والمجد والباع الطويل في العلم والتميز – لم يحالفه الحظ في العمل ضمن اختصاصه، عندما بدأ حياته العملية، بل ساقته الدنيا والظروف إلى ميدان آخر، بعيد تماماً عن شهادته الأكاديمية، أو أنه لاقى الإهمال والتهميش، وحتى “التقزيم”، بدلاً من الاهتمام وإعلاء الشأن، ومن ثم تجد المنظمات والشركات العلمية الكبيرة في دول الغرب الفرصة سانحة لاصطياده، عبر تقديم العروض المغرية اللامحدودة، وتوفير البيئة المواتية الحاضنة، التي تحفّز طاقاته وتستثمرها حتى الحدود القصوى، لا حباً فيه، بل حباً بعلمه وإبداعه، الذي سيعود بالنفع والازدهار على دولهم ومواطنيهم.
إن المبدعين والمتميزين أصحاب القدرات والمواهب الكبيرة هم ثروة وطنية هائلة بدرجة امتياز، بهم ترتقي الأوطان وتنتصر، وقد أثبتت الوقائع السياسية والاقتصادية العالمية أن صناعة الإنسان والتنمية البشرية هي الأهم، وتشغل المرتبة الأولى في الخطط والاستراتيجيات الوطنية لمختلف دول العالم، وليس أدل على ذلك من السياسات التي اتبعتها اليابان وألمانيا، فهاتان الدولتان خرجتا بعد الحرب مدمرتين اقتصادياً، ومهزومتين شر هزيمة، والأولى ضُربت بقنبلتين نوويتين، والثانية تم تقسيمها إلى شطرين متنازعين، لكنهما بعد مرور 50 عاماً على انتهاء الحرب، أصبحتا رائدتين صناعياً وتكنلوجياً، بل يُضرب بهما المثل في قوة الاقتصاد وجبروته، وقد أجمع جميع الباحثين والمفكرين على أن سر نهضتهما وتقدّمهما يكمن في اتخاذهما من صناعة الإنسان وتنميته وتطوير قدراته وطاقاته سياسة واستراتيجية وطنية، الأمر الذي دفع بهما إلى بلوغ القمة خلال خمسة عقود لا أكثر، والطريف في الأمر أن هاتين الدولتين تفوقتا باقتصادهما على بريطانيا وفرنسا اللتين انتصرتا في الحرب العالمية الثانية !!