أنا ودمشق واليرموك

أنا ودمشق واليرموك

أخبار سورية

السبت، ٢٩ نوفمبر ٢٠١٤

دمشق والياسمين واليرموك وروائح فلسطين مرة أخرى، ولوحات السنوات الست قبل هذا مع لفح الشمس والهواء والغبار في حزيران 67.. دمشق، وانا الشاب المقبل على الوجود المادي كتابة وانجازا وطباعة. دمشق «الهافانا» و»الكاردينيا» و»الكمال» و» الروضة». دمشق «الطريد» «والخيبة» و»نهار خليلي» و»التصفية». دمشق المسارح والموسيقى وقاسيون – خليل الخوري ومحمد الماغوط وزكريا تامر وممدوح عدوان.. دمشق الزين والجمال.
اليرموك اعود اليه في الخامسة والستين وكنت غادرته في التاسعة والثلاثين. مسافة بين ازهار الربيع وعصف رياح تنبئ بالخريف.
الشوق الى دمشق تعمشقني من رقبتي ومن فؤادي. هكذا نزلت مبكرا الى المدينة. مسافة حياة هي الفارق بين وصول شاب في الثانية والعشرين من العمر الى الشام وكهل في الخامسة والستين. لقد تغيرت الدنيا هنا. فلا المكان بقي على ما كان عليه ولا الرواد هم الذين بقوا صامدين في وجه مسير الزمن. «الهافانا» تحدثت لكن بلغة لا افهمها كما كنت دائما: لا وجه اراه هنا من وجوهي المتعددة. لا صوت سليم او صوت محمد الماغوط.. لا قامة زكريا تامر ولا ضحكة ممدوح عدوان التي رحلت وإياه. لا ضجر فايز خضور ولا همة ونشاط عادل ابو شنب ولا صخب صدر الدين الماغوط وقامة الياس الفاضل الشاهقة. ولا القهوة برائحتها المميزة وهي تدور بين الرواد. لم أَرَ وجها عرفني ولا وجها اعرفه .حتى المطاعم ما عادت هي. المسير نحو الصالحية والى «الروضة» اتفرس الوجوه وراء الزجاج : اين وجهك يا سليمان العيسى والشعر؟ اين الصحب القدامى الذين معك كانوا جزءا من وجود المقهى ومن تراتيل الشام وقطار اطفال العرب؟
دخلت الى الروضة. غريبا كنت في مكان لا مكان لي فيه على ما يبدو الا ومضة من ضوء قيلت لي بعدما اخترت مكانا، قال لي العامل: «هذا مكان عادل ابو شنب وجماعته». عظيم. أعادل يأتي؟ نظر الى الوقت في المعصم ثم قال: «دقائق فيصل». قبل ان يصل عادل يدخل رجل اعرفه، ولم أتعرف إليه في الوهلة الأولى: انه بالتأكيد الياس الفاضل. هل تقزم السنون حتى طول الإنسان؟ ربما بكرشه المتدفق بين بطنه ورجليه وربما بارتخاء صلابة قدميه وهو يدب بهما ليمشي. نهضت استقبله فكنت مفاجأته غير المتوقعة. فرح اللقاء أَنْسَانا السنوات والعقود. قال إن عادل سيصل الآن.. في المدخل كان ثمة هيكل بشري يشبه عادل ابو شنب.. عكاز ومشي وئيد متعثر وثمة من يسند ويساند القامة التي انحنت، والقبعة التي اخفت الشعر والعينين المثقلتين بوجه الرؤية المتعثرة. واكتشف ايضا ان الياس فقد الكثير من حاسة السمع. ولكن الروح تبقي العلامة والدلالة. فجأة يقول عادل: «صاحبك سعيد مكانه هنا بعد قليل يصل». كان قد اشار الى طاولة خلفنا يجلس حولها رجلان. فعلا يدخل سعيد. مع انه سلم من بعيد الا انه لم يعرفني. سعيد كان قد سمن قليلا واصبح شعره ابيض كالثلج الناصع. لكنه كان كما اتذكره. قمت اليه. كان قد فتح «الطاولة» ليلعب مع احد الرجلين الجالسين معه. وقفت فوق رأسه، ومعي «الطوبجي» ومعي كلية الآداب، وقبو السجن في الكاظمية.. معي اللاذقية وحفل زواجه هنا بدمشق مع زميليه هاني الراهب ومحمود الكعبي. وقفت ونحن نغني فيروز ونبكي مع قطرات المطر بمشينا الوئيد الى الكلية واغاني السجون التي حفظها المجانين مثلنا وهي كلمات مظفر النواب. قلت له «انهض يا هذا». التفت صوبي ثم عاد ليرمي النرد. صرخت: «انهض يا سعيد.. اما عرفتني؟» كيف للذاكرة ان تمحو اكثر من اربعين عاما من العمر؟ تنهض سنوات العمر لوهلة ليست طويلة ولكنها مصابة بالكساح على ما يبدو. يحتضنني ثم يعود الى اللعب. اغادر المكان واعود الى زميلي عادل والياس.
يا لهذا الزمن؟ أهو المذنب أم نحن المذنبون؟ أهو بلون فاقع مبعثر على شفاه العاهرات ام نحن من نلون كما نرى بعد ان نفقد القدرة على التركيز والتمييز؟