«نادي المفقودات» يستقطب حليب الأطفال

«نادي المفقودات» يستقطب حليب الأطفال

أخبار سورية

الجمعة، ١١ يناير ٢٠١٩

أزمة جديدة تقلق راحة السوريين بعد فقد حليب الأطفال المستورد من الصيدليات، ما يضطرهم إلى الاعتماد على التهريب عبر الحدود اللبنانية وتحمّل أسعار باهظة، في ظل تواصل أزمة الغاز، رغم ما تعوم عليه البلاد من مخزون غاز طبيعي لا يمكن الاستفادة منه سوى بعد مراحل معالجة عقّدتها الحرب
 مع ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي ليصل إلى ما يقارب 500 ليرة للدولار الواحد، بدأت التأثيرات السلبية على سوق المواد الاستهلاكية المستوردة؛ بدايةً بفقد مؤقت ترافق مع تزايد تدريجي بسيط في أسعار هذه المواد، إن وُجدت، ليصل الأمر خلال الشهر الفائت إلى انقطاع كامل لمادة حليب الأطفال المستورد، وسط غياب أي بوادر لحل المشكلة سوى وعود المسؤولين المتراكمة. وبذلك انضمّ حليب الأطفال إلى الغاز والكهرباء وباقي عناصر قائمة المفقودات من البيت السوري، والتي تطول مع انحسار الحرب عن الكثير من المناطق. خيبة جديدة تواجه السوريين لها حساسيتها الخاصة هذه المرّة، لتعلّقها بعجزهم عن تأمين غذاء أطفالهم، فيما تدخل أزمة الغاز العام الجديد بلا أفق جدي للحل، ما ينعكس سلباً على تأمين الغذاء والتدفئة للأطفال والكبار معاً. ويبدو الواقع الجديد كما لو أنه حصار من نوع آخر لإعاقة السوري عن الاستمرار في الحياة.
 
استنزاف مادي ونفسي
عبر الحدود السورية ـــ اللبنانية وجد آدم الحلّ. من سمّي تيمّناً بأبي البشرية، هو أيضاً أب لطفلين لا يتجاوزان 6 أشهر من عمريهما، «لسخرية القدر»، وفق تعبيره. تردّد المهندس المدني الثلاثيني كثيراً قبل الإقدام على خطوة الزواج؛ وبعد الزواج تردّد وزوجته قبل الإقدام على الخطوة «الانتحارية» المتمثلة في الإنجاب. وشاء القدَر أن يرزقا بتوأم، ما اضطر الوالد إلى العمل سائقاً بأجرة يومية على طريق اللاذقية ـــ دمشق. وعن طريق أحد أصدقائه تمكن من الاتفاق مع سائق على خط دمشق ــ بيروت، لتأمين حليب الأطفال للصغيرين، بدلاً من حسرة العجز كلما دخل الصيدلية للسؤال عن المادة المفقودة، وتأتي الإجابة بالنفي. أسعار عبوات الحليب التي يتمكن من تأمينها عبر الحدود مضاعفة أحياناً، وبحسب سعر الصرف، ما يعني أن إنفاق راتبه من وظيفته الصباحية كاملاً لا يكفي لغذاء طفليه طيلة الشهر. ويشرح الأمر وفق حاجة كلّ من الطفلين إلى ما بين 5 و6 عبوات حليب وسطياً، ما قد يكلّفه ما يزيد على 5 آلاف ليرة للعبوة الواحدة التي كان يقدر سعرها في سوريا بحدود 2200 ليرة، قبل الأزمة الأخيرة. يبتسم الأب ويعلّق: «انقطعنا من الغاز. لا مشكلة. المهم أن يتناول الطفلان طعامهما، فلا ذنب لهما في إنجابهما إلى هذا الواقع المنفّر. إنه ذنبي وأمّهما. ولهذا نعاقب أنفسنا ونتناول من الحواضر والمؤن المخزّنة لدينا، وبقية الأغذية التي لا تتطلب طهواً». الرجل الناقم على الظروف المحيطة يرى أن لا حال أسوأ مما وصل إليه، مضيفاً: «وعود متواصلة تتحدث عن حلول قريبة، ولا شيء يدعو إلى الاطمئنان. أخشى أن يتوقف السائق الذي يأتيني بعبوات الحليب عن السفر لسبب ما، فيجوع طفلاي. لا شيء يثير فيّ الجنون كهذه الفكرة التي تهاجمني ككابوس يوميّ».
 
«الشمّاعات» نفسها
تتضارب التصريحات الرسمية حول الأسباب التي أدت إلى انقطاع مادة حليب الأطفال. نقابة الصيادلة انبرت إلى التأكيد أن شحنات من الحليب الإيراني ستدخل الأسواق السورية خلال أيام، بحكم استيراد أصناف الحليب من إيران وفق عقود مبرمة. وكالعادة، فإن شماعة الحصار الأميركي على إيران جاهزة لترتيب التعثّر في وصول الحليب، حسب نقيب الصيادلة. ولا تغفل النقابة عن ازدياد الوضع سوءاً طيلة الأسابيع الثلاثة الماضية، بل يبيّن النقيب نفسه أن البدائل متوافرة ولكن بزيادة 30% على سعر الحليب الإيراني، ما انعكس سلباً على شريحة من المواطنين، لافتاً إلى أن منتجات شركة «نستله» تغطي 50% من احتياجات السوق السورية. وذلك وسط مطالبات الصيادلة بمنح رخص إقامة معامل وطنية لإنتاج حليب الأطفال، بدلاً من الوقوع تحت رحمة الاستيراد وظروفه.
اللافت أن بعض الآباء اضطروا إلى شراء كل ما يتوافر تحت نظرهم في الصيدليات، لتخزينها خشية انقطاعها. وعلى رغم ذلك اضطروا أخيراً إلى الاعتماد على السائقين العابرين الحدود اللبنانية يومياً، والذين أصاب الطمع بعضهم ليبدأ التحكم في الأسعار من قبلهم أيضاً. يشير الصحافي المختص في الشؤون الاقتصادية، حازم عوض، إلى أن الحل متمثل في استيراد الحليب عن طريق الدولة، باعتبار حليب الأطفال ليس مادة للاحتكار، مذكّراً بالخط الائتماني الإيراني الذي من المفترض وصول السلع الضرورية إلى سوريا من خلاله. وعلى اعتبار العقوبات على سوريا وإيران ليست جديدة، ينتقد عوض عدم الشفافية في الوعود والتصريحات الرسمية. ووسط التكتم على حقيقة احتكار مادة حليب الأطفال من قبل مستورد واحد، لا يصل عوض إلى يقين بالأمر، إذ إن المستودعات تحصل على المادة عبر أسماء مختلفة. أما عن أزمة الغاز، فيرى عوض أن الحل يأتي مع انتهاء موسم الشتاء، حين يخف الضغط على طلب المادة، منتقداً التصريحات الرسمية التي تنفي وجود الأزمة منذ بدايتها. ويرى أن ما يجري الحديث عنه حول الاعتماد على «البطاقة الذكية» في تأمين عبوتي غاز منزليتين لكل عائلة شهرياً، يمكن أن يفي بالغرض في حال تطبيقه، إن صح توافر الغاز المنزلي، بحسب التصريحات الحكومية التي تلقي اللوم على احتكار التجار. ويثير عوض مشكلة معامل السيراميك التي توقفت بسبب فقدان الغاز، ما يعني خسائر بالملايين لأصحاب هذه المعامل، فيما يركز على زيادة الطلب في بعض مناطق الريف التي عادت إلى سيطرة الدولة، والتي لم تكن ضمن حسابات الموسم الشتوي، وهي مناطق لا تتوافر فيها مراكز توزيع الغاز، ما يعني تعويلها على مراكز التوزيع في دمشق وزيادة الضغط عليها.
 
 
العوم على الغاز... لا يمنع الأزمة
من اللافت في ملف الغاز أن شهر آب في عام 2011 حمل اكتشاف بئر للغاز في منطقة قارة القلمونية، جنوب مدينة حمص، بقدرة إنتاجية تصل إلى 400 ألف متر مكعب يومياً، ومع احتياطي قابل للإنتاج يصل إلى 47 مليار متر مكعب. اكتشافات متلاحقة من الغاز طيلة سنوات ما قبل الحرب على طول شريط القلمون، في كل من دير عطية والبريج، إضافة إلى صدد، وباتجاه الشمال اكتشافات مماثلة في الفرقلس. عشرات مليارات الأمتار المكعبة المكتشفة من الغاز، مع كميات هائلة لم يجر التنقيب لإخراجها رغم إثبات وجودها في مناطق متفرقة كالساحل والمياه الإقليمية. غير أن هذه الاكتشافات لم تمنع أزمة الغاز الحالية، إذ إن الغاز الطبيعي يحتاج من أجل تحويله لغاز منزلي إلى معمل توقف بعد الحرب. ويدفع السوريون في دمشق سعر عبوة الغاز المنزلية المعدنية مبلغاً يتراوح بين 5 ــ 8 آلاف ليرة، لتأمينها بصعوبة من السوق السوداء، وعبر مضاربات أحياناً. ويصبح الوضع أصعب يوماً بعد آخر، في ظل التقنين الكهربائي المتزايد وعواصف الشتاء القاسية.