مع توفر مقوماتها نمط الحياة السريعة.. يختزل العلاقات الاجتماعية.. ويفرض العزلة بروابطه الافتراضية

مع توفر مقوماتها نمط الحياة السريعة.. يختزل العلاقات الاجتماعية.. ويفرض العزلة بروابطه الافتراضية

أخبار سورية

الجمعة، ٢٩ سبتمبر ٢٠١٧

يوماً بعد يوم يصبح نمط الحياة السريعة والتقنيات الحديثة الكثيرة التي غزت مجتمعنا أداة لإبعاد الناس عن بعضهم، وتغيرت الكثير من المفاهيم الاجتماعية التي اعتادوا وجودها سابقاً، فتغيب اللمّات الصباحية للجيران، وتنحصر العلاقات الاجتماعية في الأسرة الضيقة، وحتى بين هؤلاء يسود نوع من العزلة كنتيجة للواقع التكنولوجي الجديد، فمثلاً تتصفح أم بهاء، ربة المنزل الأربعينية، صفحتها الشخصية في موقع الفيس بوك بواسطة هاتفها المحمول، وتبدأ نهارها بنشر صورة لطيفة لمنظر طبيعي مرفقة بعبارة: “صباح الخير”، تحيي من خلالها صديقاتها وجاراتها المتواجدات أيضاً على موقع التواصل الاجتماعي، لتبدأ معهن “صبحية الكترونية” لم تألفها سابقاً حين كان فنجان القهوة حاضراً في “لمّة النسوان” مع جاراتها ضمن جلسات واقعية، وشاهداً على صلات حقيقية بين الجيران لم تعد موجودة في مجتمعنا لاعتبارات عديدة ومختلفة، لتبدو صلات الناس والجيران متجهة لشكل جديد، وحالة من العزلة الاجتماعية المحكومة بظروف الواقع، وما طرأ على المجتمع السوري من تحولات عديدة كالسفر، والتنقل، ودخول التقنيات الحديثة، إضافة لظروف الحياة الصعبة، ويوميات الغلاء الفاحش التي حدّت من هذه الصلات، لتغدو العزلة واقعاً!.

زيارات معدومة!

وتكثر الصور التي نصادفها في المجتمع، والتي تؤكد تراجع النشاط الاجتماعي، والصلات بين الناس بفعل عوامل عديدة، يتحدث لؤي مثلاً، وهو شاب أربعيني، عن زيارة ينتظرها من بعض أصدقائه منذ أكثر من سنة لمنزله الواقع في إحدى ضواحي دمشق السكنية، لكنها لم تحدث حتى الآن نتيجة عوامل كثيرة، أبرزها، كما تحدث، بعد منزله عن مركز المدينة، وصعوبة المواصلات إليه، ويضيف: ما أبعد هذا الواقع الذي نعيشه اليوم عما عرفناه سابقاً من حياة اجتماعية، وتبادل للزيارات، والصلات بين الجار وجاره، وبين الصديق وأصدقائه، فكان الود، وكانت الحياة البسيطة البعيدة عن الازدحام، والتكلّف، والضغوط اليومية، أما علاء، وهو شاب عشريني، فيتحدث عن وقت مزدحم في يومياته لا وقت معه للقاءات، أو تبادل الزيارات مع أصدقائه، ويقول إنه يستعيض عن هذا الأمر بالتواصل معهم الكترونياً عبر الوسائل المختلفة كمواقع التواصل الاجتماعي، وبرامج الدردشة الكثيرة التي أصبحت بمتناول الجميع على جوالاتهم.

لقاءات باردة

ولا تقف العزلة الاجتماعية التي أصبحت واقعاً في المجتمع عند هذه الحالات فقط، فالأمثلة تتكرر أيضاً عن جيران لا يعرفون جيرانهم، ولا يتبادلون معهم تحية الصباح أو المساء عند اللقاء، وبحسب أبي ياسر، وهو رجل ساءه تصرف بعض جيرانه حين تتلاقى أعينهم بعينيه، ولا يبادلونه سلاماً أو كلاماً، فيقول: مؤسف هذا الواقع الذي أصبحنا عليه حين تصبح وجيرانك كالغرباء، لكنه يستدرك مبرراً: ربما كان التنقل الكثير، والتشرد الذي لحق بالكثير من العائلات السورية بفعل الإرهاب في مناطقهم، سبباً لما نحن فيه اليوم، وفي المقابل تبدو الأمثلة الأخرى التي مازالت تحاول جاهدة المحافظة على طابع الحياة البسيطة، والصلات القوية مع جيرانها، موجودة ولو بقلة، يحرص أبو أحمد، مثلاً، وهو أحد الأشخاص الذين قابلناهم، على المحافظة على طقس أسبوعي في يوم الجمعة بالاجتماع مع عائلته وأصدقائه، فيحضر الفطور مرة، والسيران العائلي في حديقة عامة بيوم ربيعي مرة أخرى، يقول هذا الرجل: مهما تمدنت حياتنا وتعقدت، ومهما دخل عليها من تحولات، فإن الصلات الاجتماعية، وتبادل اللقاءات بين الأصدقاء أو العائلة، أمر لا غنى عنه في مجتمعنا الشرقي.

تهديد للحياة

يبدو أن تراجع العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع السوري يمكن أن تفسر بعوامل وأسباب عديدة، أبرزها، بحسب الدكتور إبراهيم ملحم، اختصاصي علم الاجتماع في جامعة البعث، دخول التكنولوجيا الحديثة، ومواقع التواصل الاجتماعي في حياة السوريين، وتحول معظمهم إلى أنماط جديدة من التفاعل، ما قلل بالضرورة الأشكال التقليدية المعروفة سابقاً للعلاقات الاجتماعية كتبادل الزيارات بين الأهل والأقارب والأصدقاء، ويكمل: من أهم الأسباب الإضافية أيضاً لتراجع تلك العلاقات، الأزمة التي عانى السوريون منها في السنوات الماضية، وما أحدثته من نتائج كارثية على المستوى الاجتماعي بعد هجرة بعض السوريين واغترابهم، سواء في الداخل أو الخارج، ما أدى لخلق حالة من الانكفاء نحو العائلة، وعدم الثقة بالمحيط المجهول بالنسبة لبعض عناصر المجتمع حين تتغير بيئاتهم، وفي المقابل يستشهد ملحم بدراسات علمية عديدة أجريت حديثاً تؤكد أن قضاء وقت سعيد مع الأهل والأصدقاء يقلل من خطر الموت المبكر بنسبة 50%، وبحسب هذه الدراسات فإن ضعف العلاقات الاجتماعية يوازي تدخين 15 سيجارة في اليوم، وتراجع الحياة الاجتماعية يعادل المعاناة من إدمان الخمر، وتأتي أهمية العلاقات الاجتماعية في أنها تزيد في صحة الإنسان أفضل من اللقاحات التي تمنع الإصابة بالمرض، ذلك أن الإنسان خلق كي يعيش مع غيره، وأن عزله عن الناس يسبب له أمراضاً نفسية وصحية، لذلك يختم ملحم بالتأكيد على ضرورة قضاء وقت مع العائلة والأصدقاء، والعمل على تشجيع الحياة الاجتماعية التي عرفناها سابقاً.

محمد محمود