شريان دمشق ومصدر بقائها في العناية المشددة سنوات طويلة وأسيقة المخالفات والمطاعم تصبّ في بردى

شريان دمشق ومصدر بقائها في العناية المشددة سنوات طويلة وأسيقة المخالفات والمطاعم تصبّ في بردى

أخبار سورية

الخميس، ١٤ سبتمبر ٢٠١٧

ابتسام مغربي  
نحن مصدومون من الواقع الذي وصل إليه نهر بردى من منبعه إلى وسط دمشق وصولاً إلى ما كان يسمى غوطتها…. فكيف نقبل وتقبل محافظة دمشق بأن يصل نهر مدينتها، الذي كان يدعى نهر الذهب لما كان من خير ينتشر على ضفافه، إلى هذا الحد من التلوث الذي قادته إليه حزمة من الأسباب تبدأ بالفوضى الإدارية لمن يتبوأ مراكز الإدارات الفنية التي تضيع معها الشروط الملزمة للحفاظ على الأهم في موارد المحافظة، لنعلن صراحة أن تكريس الإهمال في الأداء الإداري أدى إلى استفحال المشكلة.
بردى يتحول إلى مجرى صرف صحي، تصوروا! وكل تلك التراخيص التي أعطيت إلى المطاعم والإشغالات التي تغنت بها وزارة السياحة ومحافظة دمشق، على الرغم من مخالفاتها الصريحة والواضحة وتجاوزاتها على سرير النهر، وديكوراتها التي تفتقد التصور العمراني الذي يستحقه إنشاء سياحي مجاور لسرير بردى! فوق كل ذلك ترمي مخلفاتها من الصرف الصحي والنفايات في النهر.. تصوروا جرأة الوقاحة التي وصلنا إليها، فحين تغيب الإدارة التي تهتم وتدرس وتتابع وتقيم أداء موظفيها، نصل إلى درجة السوء التي وصل إليها بردى الذي تنتشر منه الروائح وتعج الحشرات فوق مساره ولا تسألوا عن النتائج.. فالسرير الجاف من المياه العذبة أصبح مساراً للصرف الصحي عاكساً حجم الإهمال الذي تعيشه إدارات البلديات في محافظة دمشق وريفها.
تتبعاً لبداية التلوث من المخالفات التي انتشرت على جانبي النهر وتحولت إلى تجمعات يتساءل المواطن: كيف ارتفعت طوابقها التي تصل إلى عشرة طوابق في بعض المواقع وبلا ترخيص، وأي ترخيص نسأل عنه ومنطقة حماية النهر تم تقطيع أشجارها من الحور والصفصاف والدلب تحت أنظار البلديات وفي شهر من الزمن ترتفع أربعة طوابق من أبنية متجاورة وكل أسبوع يزداد ارتفاعها سقفاً ثم تقطنها أسر تبحث عن مأوى وترمي بصرفها الصحي في سرير النهر لعدم وجود مشروع يربط الأبنية بالصرف الصحي العام.

ليس في مناطق المخالفات فقط ولكن أيضاً في وسط المدينة وأرقى أحيائها وخلف الظاهرة الجميلة لموسم بيع الصبارة متر واحد يفصلنا عن النهر الذي تتجمع فيه القازورات والطحالب، ولا تسأل: ماذا ستجد تحت هذه النفايات فلا يمكن سبر أغوار الماء العفن وتجاوز الحشرات التي تنتشر بكثافة.
ليست الأزمة سبباً فيما حدث لبردى داخل دمشق وفي محيطها، بل السبب يعود إلى الضعف الإداري الواضح بتحول مديري المكاتب إلى متابعي مخالفات والسيطرة لتسويتها ونسيان المشاريع الحيوية الأساسية لرفع هذه الكارثة عن دمشق، وأهمها عدم تنفيذ مشاريع محطات معالجة الصرف الصحي.
وهذا الواقع المتردي للنهر لم يكن في مجال الاهتمام إلا في إجراء عقود تغطية خرسانية مسبقة الصنع منها العقد 38/م ت والقرار 904 /م ت محضر تسوية للأعمال الزائدة في العقد69 لتغطية النهر وعقد وحيد لتعزيل النهر مبرم في 1979.
وفي هذا السياق نطرح: ألم تسأل المحافظة عن احتياج بردى وسبب تحوله إلى مجرى صرف صحي إلا على تغطيته بحواجز إسمنتية!!! أين هي الشروط الدنيا المطلوب توافرها لحماية شريان دمشق المائي؟ ولماذا لم تنفذ محطات المعالجة ودراساتها كلها جاهزة؟ وبعضها تمويلها متوافر، وكلها متوقفة بسبب المراسلات التي تضيع بين محافظتي دمشق وريفها ووزارة الإدارة المحلية والبيئة والزراعة والموارد المائية.
غير رشيد وتخريبي
دكتور ناصر داوود رئيس قسم الحراج والبستنة في كلية الزراعة، أكد أن البيئة كاملة بين النهر والغطاء النباتي المحيط به، والمراعي القريبة، والتربة كلها تم تخريبها بسبب الاستخدام غير الرشيد وعدم المتابعة من قبل الجهات المسؤولة والمعنية بهذا الجانب في الإدارة المحلية ومحافظة دمشق والبيئة وغيرها.
ويرى د. ناصر أن البداية كانت من خلال قطع الأشجار والشجيرات واستبدالها بالتجمعات السكانية المخالفة، وصب مخلفاتها في بردى، والمنشآت الصناعية من دبغ الجلود ومعامل الإسمنت والحديد والمواد التحويلية كلها ترمي مخلفاتها الكيميائية في بردى مسببة تلوثاً كبيراً ثم تأتي المطاعم التي تصب الأسيقة على النهر شبه الجاف.
ويتساءل د. داوود: ألا يوجد شرط أساسي بديهي في إعطاء التراخيص لهذه المنشآت يتعلق بالصرف الصحي وعدم استخدام سرير النهر لذلك! وهذا من بديهيات التراخيص، وفوق ذلك، يضيف د. داوود، تأتي نواتج التسميد الكيميائي واستخدامها بشكل مفرط ما يترك عناصر كيميائية شديدة الضرر تحول التربة من زراعية إلى مالحة غير صالحة للزراعة، عدا عن تحول هذا التلوث إلى الآبار والمياه الجوفية بنسبة من 75 إلى 85%.
فوق كل هذه الكوارث يضاف إليها تملح التربة من خلال أوبسبب الري بالغمر المتبع في المنطقة المحيطة ببردى وفي غوطته، فقد أدى استخدام الآبار للري بالراحة إلى خروج الملح من باطن التربة إلى سطحها وسنة بعد أخرى، وبسبب استخدام الإنسان غير الرشيد لتقنيات الري الضارة، تحولت أراضٍ كثيرة محيطة بالنهر إلى مالحة، ولكي تعاد نحتاج إلى وقت طويل ونفقات ضخمة.
والأخطر من كل ذلك عمليات الري بمياه الصرف الصحي غير المعالجة، التي تلوث المحاصيل والثمار والآبار، واستخدام هذه الثمار والمياه يؤدي إلى أنواع من السرطان وإصابة بالعصيات والملاريا، وسرطان الدم، وفقر الدم وكثير من الإصابات الأخرى.
تلوث غير مسبوق ومدمر
من جهته أكد د. عبد الحكيم عزيزية- رئيس قسم علوم الأغذية في كلية الزراعة أن جميع الأغذية التي تتم زراعتها في محيط النهر والغوطة ويتم ريها من النهر وفروعه تحتوي على مستويات عالية جداً من العناصر الثقيلة ونسب فوق المستوى المسموح به عالمياً، وأخطرها الرصاص والكادميوم والزئبق وهي نواتج صناعات ومدابغ.
وأثبتت الدراسات والبحوث التي تم إجراؤها على هذا الجانب أن المياه التي يتم استخدامها في مصانع تنتج أغذية ملوثة بالعناصر الثقيلة، وذلك لعدم وجود مراقبة فعلية للري واستخدام المياه في مصانع الأغذية الذي يكون من المفترض أن يكون مراقباً أكثر من مياه الشرب!
ولارتفاع نسب التلوث فإن البحوث المنفذة أكدت أن مزارع الأبقار القريبة من بردى تنتج حليباً مع وجود عناصر ثقيلة ولعدم وجود من يهتم بالتحليل فإن تراكم هذه العناصر في جسد الإنسان يؤدي إلى أمراض عديدة على رأسها السرطان وكل ذلك سببه الإنسان والإدارة غير الرشيدة التي ساهمت في هذا التخريب المقصود وغير المقصود.
تأكيد تداعيات المشكلة
يرى المهتمون ببردى، ومن خلال دراسات قام بها الأساتذة والطلاب في كلية العلوم، أن النهر ملوث بكل النواحي التي أشار إليها مؤتمر ستوكهولم الذي يؤكد أن أي خلل في أنظمة الماء والهواء والتربة والغذاء يؤثر بشكل مباشر أوغير مباشر في الكائنات الحية مثلما يلحق ضرراً بالممتلكات الاقتصادية، ومن أهم هذه الملوثات النترات التي تنتج عن استخدام الأسمدة ومخلفات الحيوانات والإنسان…. وتوفر هذه الملوثات في التربة والمياه يؤدي إلى تراكمها وتحولها إلى مسرطنات تسببها مادة النتروزامين وحصول طفرات وراثية ناتجة عن وجود مادة البروكسيل.
ورغم أن مديرية مراقبة نوعية المياه حددت 36 نقطة رصد تقطف منها العينات تحللها وتراقب نسب الملوثات فيها، وتعمم النتائج على كل الوزارات والإدارات المختصة ليكونوا على اطلاع على نوعية المياه المتوافرة وتغيرها، واتخاذ ما يلزم من إجراءات تحصّن سلامة المياه والكائنات الحية على ضفتي النهر، لكن للأسف لم نلاحظ أي اجراء متخذ بشأن نسب التلوث المرتفعة في نهر بردى، فرمي أسيقة المنازل المخالفة والمطاعم والمصانع في بردى يؤدي إلى انتقال البكتيريا والمكروبات وتجمعها في سرير النهر وفي البحيرات الصغيرة الناتجة عنه، وتلوث المياه بالدهون والبكتيريا والأملاح السامة والنفط والمعادن الثقيلة.
وترى الدراسة أن معالجة الصرف الصحي ضرورة يجب فرضها عندما تؤثر مياه الصرف الصحي في مجرى المياه المستقبلة، ولكن اختصاراً للتكاليف يهمل هذا الجانب، فيحدث تلوث كبير يؤدي أحياناً إلى إيقاف المنشأة.. وفي كل التعاريف تعد معالجة مياه الصرف على المجاري المائية من الأولويات في مراحل التخطيط والاهتمام بإنشاء محطات معالجة للصرف الصناعي، مع الإشارة إلى توافر الأسباب للجرثمة العالية ووجود بكتيريا مثل السالومونيا والشغيلا وما تسببه من أمراض خطيرة معوية وغيرها وهذا يتطلب الإسراع في بناء محطات المعالجة التي تساهم في حماية المصادر المائية ومنع انتشار الأمراض وحماية الثروة الحيوانية ومنع الترسبات ضمن المسطحات المائية.
وتأكيداً على ذلك أشار المهندس خليل مصطفى- معاون مدير الصرف الصحي في محافظة دمشق إلى وجود مشروع لإنشاء محطة معالجة ورفع الأسيقة عن بردى لكن المشروع متوقف وعائدية تنفيذ ذلك تعود إلى مؤسسة المياه والصرف الصحي، والمشروع يحتاج إلى مساحة صغيرة لمرور الانابيب وبناء مستلزماته ولم تتم أي خطوة في هذا الاتجاه.. وهناك مشروع تقوم به شركة الصرف الصحي برفع مصبات أبنية الإسكان وتحويلها وكل مستلزمات تنفيذ المشروع جاهزة من دراسات فنية ووجود تعهدات لتنفيذها، أما بقية التجمعات السكانية فتحتاج مشاريع رفع الصرف الصحي الناتج عنها لإنشاء محطة معالجة وتوفير التمويل اللازم.
التحكم الإداري بالمكان يعوق التنفيذ
مدير الصرف الصحي في وزارة الموارد المائية المهندس محمد جرادات أشار إلى أن الوزارة أنجزت عام 2001 دراسة توجيهية للصرف الصحي في حوضي بردى والأعوج، تم تحديد محاور ومواقع محطات المعالجة المراد دراستها وذلك بهدف حماية نهري بردى والأعوج من التلوث، وبالتالي الحصول على مياه معالجة تساهم في ري الأراضي الزراعية. وفي عام 2007 تم إنجاز دراسة للصرف الصحي في محافظة دمشق بتمويل من الجانب الماليزي وتم من خلالها تحديد مواقع المحطات المعالجة: سرغايا لحماية ينابيع بردى، والزبداني لمعالجة الصرف الصحي، بقين مضايا الزبداني وجمرايا، كل التجمعات السكانية منطقة هريرة وحتى منطقة جمرايا ولم تنفذ هذه المواقع بسبب قلة الحيازات وتم تنفيذ محطة الزبداني وهي حالياً مستثمرة.
اختيار مكان خاطىء لا يبرر الإهمال
تم تحديد موقع لمحطة جمرايا في موقع معمل الإسمنت السابق، لكن لم توافق محافظة دمشق على الموقع والسبب قيام مشاريع استثمارية سياحية هناك، فاضطرت الوزارة إلى تحديد موقع جديد قرب جسر الهامة ونتيجة الاعتراضات لم تنفذ المحطة في عام 2011.
وبعد ذلك انسحب الجانب الماليزي حيث تم الاتفاق بين وزارة الموارد المائية والشركة الماليزية لاستكمال أعمال القرض وتنفيذ محطة معالجة جمرايا التي ستساهم في رفد نهر بردى بمياه معالجة نقية، تساهم في التخلص من التلوث، يتوقع تنفيذها خلال عام 2018، حيث تقوم وزارة الموارد المائية بإنجاز دراسة متكاملة لسهل البجاع والديماس من خلال دراسة محورين ينتهيان إلى محطتي معالجة تخدم كل التجمعات السكانية في المنطقة المذكورة، وتالياً تأمين مياه معالجة والتخلص من التلوث في نهر بردى بشكل كامل عدا منطقة الربوة بسبب وجود مطاعم وهذا من صلاحية محافظة دمشق.
مواصفات ولكن!
من المستغرب وجود مواصفات لمياه الصرف الصحي الواجب توافرها في المياه التي تصب في الأنهار لكنها مواصفة فقط!!! وهي المواصفة التي تعمل وفقها الموارد المائية والشركة العامة للصرف الصحي والإدارة المحلية لكنها مجرد مواصفة لا توجد أي ضوابط تؤكد تطبيقها…
لقد قمنا بتحليل عينات مقطوفة من النهر في مواقع مختلفة، وأثبتت التحاليل نسب التلوث العالية حيث يوجدcod بنسب عشرات الأضعاف عن المسموح به عالمياً، وكذلك مادة النتريت، وملوثات وجراثيم كثيرة ومركبات عضوية غير مسموح بوجودها في الأنهار، وهذه النتائج الخطيرة ودرجة تلوث الهواء العالية دفعت حتى سكان الأحياء الراقية المجاورة لبردى إلى إغلاق نوافذهم بشكل دائم.
أليس ما يحدث مؤشراً خطيراً على خلل تخطيطي كبير لنترك مثل هذه الأولويات مركونة في خطط مضى على وضعها سنوات طويلة ونهتم بدلاً منها بمشاريع هامشية من رصف غير محتاجين لصرف أكلافه الكبيرة وتجميل حدائق لم يبق منها ما يوحي أنها كانت في دائرة الاهتمام وطلاء جدران لا يمر عليها إلا شتاء واحد حتى يتم محوها مع مياه الأمطار.
لن نقول أزمة أدت إلى وصولنا إلى هذا الواقع المتردي بل نؤكد ترهل بأعمال الكادر الإداري والفني الذي يعمل في محافظة دمشق وريفها والوزارات المعنية، لأنه غير مقبول وليس مسوغاً أبداً لأن يصل بردى إلى هذا الواقع، وأثبتت النتائج المخزية التي يعيشها النهر وما ينشره من أوبئة وجود خلل كبير في ذهنية التخطيط ووضع الموازنات ومتابعة الصرفيات، فما تم هدره أكثر بكثير من تكاليف محطات معالجة صغيرة ترفع بلاء الصرف الصحي عن النهر وليس مسوغاً أبداً لكل الإدارات في محافظة دمشق في صمتها القاتل حول ترك المطاعم ومناطق المخالفات ترمي أسيقتها في نهرنا الجميل الذي بات مساراً فقط. لندخل في مواجهة حقيقة المشكلة فهي ليست صغيرة ولا يمكن الصمت على إهمالها وتجب متابعة أساس هذا التدهور ووضع الحلول السريعة لإيقافه فلن نقبل حضوراً شكلياً لإدارات ومسؤوليها من دون أن نلمس تغيراً فعلياً في التعامل مع واقع النهر، ولا تنسوا أنه بردى نأمل أن نجد من يهتم لإبقاء نشيد التغني به عالياً.