أزمة سوق العقارات السورية: تنامي العشوائيات... وإهمال رسميّ

أزمة سوق العقارات السورية: تنامي العشوائيات... وإهمال رسميّ

أخبار سورية

الخميس، ١٠ أغسطس ٢٠١٧

يعكس تراجع التطوير العقاري في مناطق السكن العشوائي والتفاوت الطبقي الحاد بين أحياء المدن، توجهات «خفية» لتلبية مصالح الطبقة الغنية على حساب الفقراء. ويعاني سوق العقارات من تحديات جمّة عززتها الحرب القائمة، وسط إهمال رسمي لعديد من المقترحات والتوصيات المعنية بإنقاذه وتحسينه
لا يملك مسؤولو محافظة دمشق والبلديات التابعة لها أي خطط أو برامج اجتماعية وتنموية في الحقل العقاري، في ما يخص مناطق السكن العشوائي في العاصمة السورية. «الموشّح» الجاهز عن الأولويات بات مستهلكاً خلال سنوات الحرب التي مرّت من دون أي التفات رسمي إلى واقع تلك المناطق على أهميته، بوصفه واحداً من أهم أسباب الحرب القائمة.

وفي المقابل، يترافق ذلك مع استقطاب تلك المناطق الشعبية للشباب العاجزين عن تأمين «مساكن لائقة» في المناطق الراقية، وسط أزمة ارتفاع أسعار وإيجارات العقارات، التي قادت عدداً كبيراً من العائلات إلى مناطق السكن العشوائي، حيث البطالة والفقر والأوجاع المكتومة.
تتنقل الشابة الثلاثينية يسرا المزيودي، بين مسكن وآخر في عشوائيات حي التضامن الدمشقي، باعتبارها الأقل أجراً بين مناطق العاصمة. وتخشى الفتاة المهتمة بالشأن الاقتصادي، الإصابة بالفصام، عند مقارنة تجربتها السكنية ضمن الحي الشعبي بمكان عملها الكائن في مشروع دُمّر «الراقي»، غرب دمشق. التفاوت بين الحيّين وقح... ويطرح أزمة التفاوت الطبقي ضمن مدينة واحدة، بحيث يتضح الاتجاه نحو تلبية متطلبات الطبقة الغنية على حساب سكان الأحياء الفقيرة. ولا يخشى المسؤولون المعنيون بهذا الملف الإفصاح عنه، بغرض رفع المسؤوليات ــ أو جزء منها ــ عن كاهلهم. وفي مقابل امتناع المصارف السورية عن منح القروض وإيقافها خطط التمويل منذ اشتعال الحرب، أُسِّسَت عشرات شركات التطوير العقاري، وظهر مستثمرون مستعدون لحجز مواقعهم على خريطة مساحات الإعمار المتوقعة والمسموح بها، لتستهدف المشاريع العقارية المطروحة تلك قلّة من السوريين ممن يمتلكون المال لتغطية تكاليفها.
تقاذف المسؤوليات بين المسؤولين المعنيين بالواقع العقاري، تجلى في تصريحات إعلامية خرجت نهاية الشهر الفائت، اتهم فيها رئيس «الاتحاد العام للتعاون السكني» زياد سكري، إدارة «المصرف العقاري» باللامبالاة والتقصير وتجاهل اجتماعات مجالس الاتحاد، بحجة العلم المسبق لإدارة المصرف بمشكلات قطاع التعاون السكني ومطالبه وعدم الرغبة في تكرار الاستماع إليها. مع العلم أن الاتحاد أنجز على مدى سنوات ربع مليون شقة سكنية، بحسب تصريحات رئيسه. وأتى ذلك بالتزامن مع تصريحات مدير المؤسسة العامة للإسكان، أخيراً، حول عدم قدرة مؤسسته على لعب دور المصرف العقاري، في السوق السورية.

غياب دور «الإسكان» و«المصرف العقاري»

تمتد جذور واقع سوق العقارات الحالي إلى سنوات ما قبل الحرب، إذ كان المشهد العقاري حينها حافلاً بالمشاكل، فلم تشكل حصة القطاع العام والتعاوني معاً أكثر من 20% من حجم السوق. ولم تُغطِّ «المؤسسة العامة للإسكان» أكثر من 11% من حاجة السوق العقارية منذ تأسيسها عام 1961، حيث أنجزت ما يقارب 42 ألف مسكن فقط، فيما تحكّم القطاع الخاص بحصة تصل إلى أكثر من 85% من حجم السوق.
وتوضح دراسة لمستشار وزير الاقتصاد السوري والباحث الاقتصادي غسان العيد، عدداً من المشاكل المتعلقة بارتفاع أسعار مواد البناء «وتحوّل قيمة الأرض إلى ما يقارب 90% من قيمة البناء، في ظل غياب مخطط الأطلس الجغرافي الكامل». عوامل أُخرى أرخت بظلالها على السوق العقارية، من بينها انخفاض مستوى دخل الفرد وأزمة السيولة في المصارف، وغياب التنظيم وترك السوق عرضة لأهواء التجار. وأدت الحرب إلى مزيد من الضبابية في القطاع، ما أدى إلى تباطؤ نشاط السوق. فيما بقي عدم استقرار البنية التشريعية الناظمة للتطوير العقاري، في مقابل كثرة القرارات والتشريعات التي ما زالت قيد الدراسة (كتملّك الأجانب والاستثمار العقاري)، أبرز ما يكبّل سوق العقارات.

«العشوائيات»: القفل والمفتاح

حياة أُخرى يشهدها سكان الأحياء العشوائية. مشاغل تختلف كلياً عما ينشر عبر وسائل الإعلام من «الهموم السياسية والثقافية». تفاصيل تلك الحياة بعيدة عن تعقيدات النخب المعروفة، ومليئة بمصائب أكبر وأوجاع إضافية عمّقتها الحرب. تقيم عُلا في حيّ الدعتور على أطراف مدينة اللاذقية. المرأة الثلاثينية أم لطفلين وتنتظر مولودها الثالث من رجُل انقطعت أخباره على أحد خطوط النار في ريف حلب، خلال قتاله ضمن إحدى المجموعات الرديفة للجيش. أربعة أشهر كانت كافية لتقطع الرجاء من عودته وتخرج للعمل في تنظيف المنازل. أجرة الغرفة التي تقيم فيها مع طفليها تبلغ 10 آلاف ليرة سورية، أي ما يعادل 20 دولاراً، في مقابل دخل شهري يبلغ وسطياً 50 دولاراً.

يحيط بتلك المرأة أهل وجيران يتجرّعون بدورهم مرارة الذل وشظف العيش في ظل خدمات فقيرة. تكفيهم وجوه شهدائهم التي تزين جدران المنازل التي بانت هياكلها لشدة تآكلها. وتلوح في جوارهم مبانٍ قريبة أنشئت على عَجَلٍ بشروط مخالفة لقوانين البناء، بعضها هدمته البلدية، والبعض الآخر ما زال قائماً، وقد سكنته بعض العائلات. تعلّق علا ببساطة: «اللي واسطته أقوى بقيت بنايتو».
أسعار العقارات في هذه المناطق تبدأ من مليوني ليرة سورية، لغرف غير صالحة للسكن البشري. ويرى الباحث العيد أن «أسباب التوسع في السكن العشوائي تعود إلى غياب تراكمي للتخطيط السكاني ومعطيات التخطيط الإقليمي الشامل، إضافة إلى إجراءات التنظيم العمراني المعقدة والطويلة الأمد، وافتقاد الرؤية الاستراتيجية العمرانية المبنية على دراسات علمية تأخذ بالاعتبار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الحاصلة والمتوقعة». كذلك يعزو التوسع العشوائي إلى «فقدان الكثير من المواطنين مساكنهم بفعل غزو الحرب أحياءهم، ولجوئهم إلى أحياء أكثر أمناً بهدف تأمين السكن فيها بأرخص ما يمكن».
ومن اللافت وجود مقترحات لحلول عدة يغفل عنها المسؤولون أو يتجاهلونها عمداً. ويطرح العيد بعضها «كتدخل الدولة مباشرةً من خلال بناء وحدات سكنية جديدة بتكاليف رخيصة، بالتزامن مع طرح أراضٍ مخططة ومخصصة للبناء»، إضافة إلى «ملاءمة وثائق التعمير مع الواقع المحلي وتوفير نماذج تصميمية معمارية، تراعي العادات والتقاليد لهذه المناطق». كذلك يقترح «تسهيل الإجراءات المعتمدة في تدبير ملفات الحصول على رخص بناء وضرورة وجود أحكام الرقابة على حدود المدن وتجريم البناء عليها، وإصدار قوانين بنائية حاكمة تتلافى الثُّغَر في القوانين الحالية». ويعرّج العيد خلال مقترحاته على قضية منسية من قبل المعنيين، وتتعلق بصياغة وتنفيذ برامج اجتماعية خاصة موجهة لشرائح الشباب في مناطق العشوائيات ودراسة مؤشرات البطالة لديهم، عند وضع برامج التشغيل المناسبة لهم ودراسة مؤشرات التربية والتعليم والصحة.
وترفع الدراسة توصيات عدة لدعم قطاع العقارات إلى من يهتم بإيجاد الحلول، كضرورة التزام «الهيئة العامة للتطوير العقاري» تبسيط الإجراءات، بما يتطلب وجود تكامل بين عملها و«هيئة الإشراف على التمويل العقاري» التي ألحقت بوزارة المالية، مع «القانون 33 الخاص بمعالجة الملكيات في مناطق السكن العشوائي وإزالة الشيوع». كذلك يتطلب التطوير العقاري وفق الدراسة، تنشيط قطاع الاستثمارات باعتباره مؤثراً بـ 100 مهنة، بنحو مباشر أو غير مباشر. ومن الضروري أيضاً، وفق الدراسة المطروحة، تفعيل عمل الجهات الإدارية وتطوير البنية التشريعية والمحافظة على الخدمات والحاجات الوطنية للطبقة الفقيرة، بما يخدم التوازن بين الريف والمدينة والعمل الجدي لتأمين سكن بديل لقرابة مليونَي مسكن دمرتها الحرب. ويلفت العيد إلى اقتراح استبدال الطاقة البديلة، ولا سيما في شركات الإسمنت، بحيث يمكن استخدام الفحم الحجري المنتج في مصفاة حمص أو فحم الكوك المستورد بكلفة أقل، والذي يشكل أكثر من 60% من تكلفة الإسمنت، وسط الحاجة إلى ملايين الأطنان منه خلال مرحلة الإعمار القادمة.