رؤية حكومية استشرافية لما بعد الحرب مشروع برنامج وطني للتحوّل من الجمود التنموي إلى إطلاق تدريجي للطاقات الاقتصادية

رؤية حكومية استشرافية لما بعد الحرب مشروع برنامج وطني للتحوّل من الجمود التنموي إلى إطلاق تدريجي للطاقات الاقتصادية

أخبار سورية

الاثنين، ٦ مارس ٢٠١٧

انصبّت الجهود الحكومية خلال السنوات الماضية من عمر الأزمة على أولويات استدعتها طبيعة المرحلة، فالاستجابة لاحتياجات الصمود والحفاظ على نسق الخدمات وتخفيف الآثار على المواطنين كانت كلّها المقومات التي ساهمت في الحفاظ على  المقدّرات  الاقتصادية والاجتماعية، وعليه جاءت المقاربة الدقيقة من خلال القراءة المتأنية للحكومة في مشروع التخطيط بمراحل الانتقال إلى ما بعد الأزمة عبر التصوّرات الأساسية لبرنامج وطني لما بعد الأزمة.

لكن ما يحصل حالياً حسب رأي بعض المتابعين هو تقدّم العديد من الجهات المعنية والمتابعة للشأن السوري ومن مختلف الانتماءات الصديقة وغير الصديقة بمشاريع وخطط ترسم ملامح المشهد السوري للمرحلة المقبلة، حيث  تستغرب هذه الجهات عدم وجود عنوان واضح لنظرة الحكومة للهوية الاقتصادية والاجتماعية للمرحلة المقبلة.

 

إقرار حكومي

ويمكننا اعتبار إقرار الحكومة الحالية لمشروع “البرنامج الوطني لسورية ما بعد الحرب” يأتي ضمن سياق إعطاء هوية محدّدة الملامح لاقتصادنا الوطني، إذ يركّز  هذا البرنامج على وضع آليات وخطط لرسم ملامح المشهد السوري في المرحلة المقبلة من النواحي الاقتصادية والاجتماعية، بغية إعادة الاقتصاد والمجتمع إلى المسار التنموي الصحيح القائم على نهج جديد، ويتمحور البرنامج -حسب النسخة التي حصلت عليها “البعث”- حول عدة نقاط تتضمّن البناء المؤسسي، وتحديث البنى التحتية، وتحقيق التنمية المستدامة والمتوازنة، إضافة إلى محور التنمية الإنسانية الذي يتضمن التكوين الاجتماعي والتربوي والتعليمي والثقافي، إلى جانب محور خاص بالحوار الوطني.

ويؤكد مصدر في رئاسة مجلس الوزراء أن مشروع البرنامج الوطني لسورية لما بعد الأزمة تم إعداده بالتعاون مع الشركاء الوطنيين المعنيين، مبيّناً لـ”البعث” أن وجهة نظر الحكومة السورية وخططها الواعية والهادفة إلى رسم المشهد السوري في المرحلة المقبلة، تستدعي بدء التخطيط للتحوّل من مرحلة الاستجابة للاحتياجات إلى مرحلة الإطلاق التدريجي للعملية الإنتاجية، لتعزيز مقوّمات الصمود والعيش كمرحلة أولى، لإعادة الاقتصاد والمجتمع إلى المسار التنموي الصحيح القائم على نهج تنموي جديد يتخذ من النمو التشميلي والتضميني والتوازن التنموي “قطاعياً وجغرافياً” منطلقات أساسية، مشيراً إلى أن العديد من مكامن الإنتاج القطاعية لا تزال معطلة، لكنها قابلة للاستثمار مع وجود فجوة في الاحتياجات من هذه المكامن.

جمود تنموي

رئيس هيئة التخطيط والتعاون الدولي الدكتور عماد الصابوني أشار إلى أن البرنامج يقوم على تحقيق جملة من الأهداف تتعلق بالدرجة الأولى بإظهار الأولوية التي توليها الحكومة لرسم مستقبل سورية، واضطلاعها بمسؤوليتها المؤسساتية، وقدرتها على توجيه مواردها وإمكاناتها على النحو الذي يحقق مصالحها الوطنية بطريقة علمية ومنهجية، إضافة إلى التحول من مرحلة الجمود التنموي الذي فرضته الأزمة، إلى مرحلة إطلاق تدريجي لطاقات المجتمع والاقتصاد، وصولاً إلى النهوض بجميع مكونات التنمية الاقتصادية والمجتمعية “قطاعياً وجغرافياً”، مع تعزيز قدرة وكفاءة المؤسسات الاقتصادية في تنفيذ البرنامج، وتعزيز التماسك الاجتماعي والانتماء والهوية الوطنية والعدالة الاجتماعية، كما يرمي البرنامج حسب الصابوني إلى تحقيق أهداف محدّدة تتفق مع توجهات كل مرحلة من مراحل عمر هذا البرنامج تماشياً مع الرؤى والأهداف العامة.

ولم يخفِ الصابوني التداخلات بين مراحل البرنامج وفق ما تفرضه ظروف الأزمة وتطوّراتها، التي تبدأ بمرحلة الإغاثة والاستجابة للاحتياجات التي ستمتد عملياً حتى انتهاء الأزمة، وسيكون التركيز فيها على الاستجابة للاحتياجات الأساسية عن طرق نشاطات مدروسة جيداً يمكن استخدامها كقاعدة لتعزيز العملية الإنتاجية، وتأهيل البنى التحتية، وتقدير الخسائر والأضرار للحدّ من آثارها، وجمع المعلومات لوضع وتعديل السياسات والخطط بحيث تتوافق مع المعطيات الجديدة على الأرض.

 

تعافٍ

وفي سياق حديثه عن مرحلة التعافي بيّن الصابوني أن التركيز فيها سيكون موجّهاً نحو نشاطات إعادة الإعمار عموماً، ومفهوم إعادة تأهيل البنى التحتية على وجه الخصوص، إضافة إلى ترسيخ مفهوم بواكير التعافي، مبيّناً أن نقطتي بدء وانتهاء هذه المرحلة جغرافياً تتحدّدان وفق التطورات الجغرافية للأزمة، مشيراً إلى أن نهايتها مرهونة بتوفر الظروف المناسبة لانطلاق المرحلة التالية.

واعتبر الصابوني أن البوصلة في هذه المرحلة ستتوجه نحو استعادة التوازن، وذلك من خلال وقف النزيف الحاصل باستخدام جميع وسائل التمويل الخارجية والداخلية المتوفرة “التسهيل الكمي أو التمويل بالعجز” وإن كان بطريقة لا تتناسب –مرحلياً– مع مقتضيات استدامة التنمية، مبيّناً أنه عندما تهدأ الأمور ويتحقق الاستقرار المنشود لن يكون لدينا الوقت الكافي لإعادة ترتيب مصادر الإنتاج “المادي والمعنوي”، حيث ستكون الحاجة منصبّة نحو تسييل الإنتاج، بمعنى تحويل الإنتاج إلى أموال سائلة بسرعة كبيرة لترميم فجوة التمويل، ووقف النمو الواسع لظاهرة التضخم، وذلك بغية تمويل تنفيذ البرنامج تمويلاً سليماً، ويبقى التشابك القطاعي في حدوده الدنيا، حيث يترك لكل قطاع أن يرتب أوراقه بمفرده، إذ إن الأولوية هنا هي للحصول على الإيرادات السريعة لتغيير هيكلية التمويل.

وأشار الصابوني إلى أن العمل ضمن هذه المرحلة سيأخذ منحى ترميم سلاسل الإنتاج، بدءاً بالأقل تكلفة والأكثر إلحاحاً، باتجاه الأعلى تكلفة والأقل إلحاحاً، بحيث تتم إعادة إنعاش أقل المصادر تضرراً وأكثرها قابلية لإعادة الإنتاج، مع التركيز الكبير على البنية التحتية من “الطاقة- المياه- النقل” على وجه التحديد، اللازمة لإعادة دوران العملية الإنتاجية في سياقها الأوسع.

انتعاش

وتطرّق الصابوني إلى مرحلة الانتعاش الواردة في البرنامج، التي ستعنى بإعادة رسم ملامح الاقتصاد السوري المتكامل بعد أن تكون جميع  القطاعات قد رسمت حدودها الخاصة على نحو يظهر حاجات وإمكانات التشابكات الأمامية والخلفية مع باقي القطاعات، مبيّناً أنه ستتسارع خلال هذه المرحلة عملية تشكّل سلسلة إيجاد القيمة المضافة عن طريق زيادة الترابط القطاعي البيني، بحيث تصبح مخرجات بعض القطاعات مدخلات للقطاعات الأخرى في عملية أكثر منهجية وأكثر كثافة.

وأوضح الصابوني أن القطاعين الزراعي والصناعي يعدّان من الأمثلة الأكثر حضوراً خلال هذه المرحلة، كما يعدّ ملف تفعيل وتوسيع قطاع الصناعات الغذائية أكثر الملفّات أهمية في هذا السياق، حيث تجدر الإشارة إلى الأثر الايجابي الكبير المنتظر من تفعيل ملف المشروعات الصغيرة والمتوسطة في هذه المرحلة، منوهاً إلى أنه من أهم الملفات الضرورية لإنعاش الاقتصاد السوري، كما تنطوي هذه المرحلة على واحد من أهم الأهداف الثانوية، وهو تعزيز مبدأ التمويل الذاتي للعملية التنموية، والبدء بقطف ثمار التشابكات الأمامية والخلفية التي يعاد إنتاجها، وتشكّل هذه المرحلة الأرضية الضرورية لإطلاق مشروع مكافحة الركود التضخمي، وهو الطريق نحو الاستدامة التنموية التي تعتبر المرحلة  الأخيرة من عمر البرنامج، التي تشهد أيضاً تشكّل هوية الاقتصاد السوري الحديث، إذ سيجري خلال هذه المرحلة وضع السياسات والآليات التي تضمن استدامة التنمية بأبعادها المختلفة قطاعياً وجغرافياً، مع التركيز على ربط الأبعاد المختلفة الاقتصادية والمؤسساتية والاجتماعية.

وتتميّز التداخلات في هذه المرحلة حسب الصابوني عن سابقاتها بأنها يجب أن تكون مبنيّة على رؤية يتم تبنّيها عن طريق حوار اقتصادي، تنبثق عنه مجموعة من الأهداف المتوسطة والبعيدة الأمد، تستهدف إعادة هندسة الاقتصاد السوري، وتحديد هوية الاقتصاد السوري المرتكز على المؤسسات المرنة القادرة على حمل مشروع البنيتين التحتية والفوقية الجديدتين والحديثتين في سورية ما بعد الأزمة.

وأكد الصابوني أن هذا المشروع قادر على استيعاب وضم جميع الهويات الفردية تحت لوائه وإرساء مفهوم التشاركية بمعناه الواسع، إذ تبرز في هذه المرحلة معالم التكامل بين الاقتصاد والاجتماع والسياسة، وستتم دراسة وإظهار العوامل التي ظهرت وتفاقمت أثناء الأزمة، لاستبعادها أو الحدّ منها، ولاسيما تلك التي ساهمت في تفاقم مشكلة الركود التضخمي، إضافة إلى التركيز على المفصل الرابط بين الاقتصادي والاجتماعي، بحيث يصبح الاقتصاد وسيلة لتحقيق رفاهية المجتمع على مبدأ تكافؤ الفرص بين الجميع، وسيكون توسيع الطبقة الوسطى في المجتمع السوري واحداً من أهم معايير الحكم على مدى النجاح في تحقيق أهداف هذه المرحلة.

محمد زكريا