«ثمار أستانة»: اقتتال «جهادي» وتضييق على «داعش»

«ثمار أستانة»: اقتتال «جهادي» وتضييق على «داعش»

أخبار سورية

الخميس، ٢٦ يناير ٢٠١٧

من دون الإفراط في التفاؤل حول ما قد يفرزه «أستانة» وتفاهماته (ما ظهر منها وما خفي) من انعكاسات على المشهد السوري، يمكن تبيّن ملامح جديدة آخذة في الارتسام لميدان الصراع العسكري. ملامح كانت مقدماتها قد فُرضت على الأرض منذ حُسمت «معركة حلب الكبرى» لمصلحة الجيش السوري وحلفائه. وحتى الآن يبدو أن العاصمة الكازاخيّة قد شكّلت منصّة مهمّة لمحاولة تكريس واقع جديد في السياسة كما في الميدان

لم يكن «أستانة» ليُعقد لولا حسم معركة حلب. تبدو هذه الإشارة ضروريّة قبل الخوض في أي مقاربةٍ للمشهد السوري بعد المحادثات التي كرّست روسيا عرّاباً للملف بأكمله (في المدى المنظور على الأقل). وفيما حضر إلى جانبها لاعبان إقليميّان بارزان بوصفهما «راعيَين»، حلّت الولايات المتحدة «ضيفاً» في العاصمة الكازاخيّة، بينما اكتفت كل من السعوديّة وقطر بأدوار هامشيّة وراء الكواليس.

وسواء كانت أنقرة قد قدّمت ثمناً مسبقاً في حلب (طوعاً أو كرهاً) أو أنّها تسدّد بدءاً من «أستانة» فاتورةً مقدّمة لمكاسب موعودة في الملف الكردي (هاجسها الأكبر)، فالثابت أنّها تبدو اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى موسكو. ومن شأن هذا أن يترك انعكاساً واضحاً في المشهد الميداني ويخلق ترابطاً وثيقاً بينه وبين نظيره السياسي (وهو ترابطٌ كان الروس قد سعوا إلى تحقيقه منذ دخولهم العسكري المباشر).

ويبدو جليّاً أنّ موسكو وأنقرة يتشاطران سعياً مشتركاً إلى ترسيخ واقعٍ يناسب كلّاً منهما (لأسبابه)، قبل انضمام الإدارة الأميركيّة الجديدة إلى الأجواء. ولا تبدو طهران بعيدةً عن هذا السعي من زاويتها أيضاً، نظراً إلى المقدّمات التي تشير إلى أنّ إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ستتبنى مقاربةً مختلفة عن سابقتها في ما يتعلّق بالملف الإيراني، الأمر الذي يُرجّح أن ينعكس بطبيعة الحال حرصاً أميركيّاً على تحجيم دور طهران في ما يتعلّق بسوريا. لدمشق «فلسفتُها» الخاصّة في ما يتعلّق بالوقت واستثماره حتى الرمق الأخير والبحث عن التباينات والسعي إلى تجييرها لمصلحتها، من دون أن يغيب (حتى الآن) عامل انعدام الثقة بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن حساباتها. في ظل هذه التعقيدات والتداخلات السياسيّة، بدأت ملامح جديدة للصراع العسكري في الارتسام على أرض الواقع، بخطوات حذرة تلتزمها معظم الأطراف وتترك خطوط الاشتباك مُشرعةً على مختلف الاحتمالات. ويمكن التمييز في الحقبة الراهنة بين نوعين من الجبهات: ساكنة مترقبّة، ونشطة مرشّحة لمزيد من الاستعار. ومع استثناء معارك وادي بردى، تحضر جبهات محيط دمشق على لائحة الجبهات الساكنة، لا سيّما مع الدور المتنامي لـ«جيش الإسلام» في لعبة المفاوضات. وينسحب الأمر على جبهات الجنوب (وبشكل خاص جبهات درعا) وهو أمر يبدو بديهيّاً أنّه كان حاضراً على طاولة البحث بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والعاهل الأردني عبدالله بن الحسين أمس.


■ تحظى عمليات الجيش السوري في محيط مدينة خناصر بأهميّة ثنائيّة المنحى: دفاعيّة عبر توسيع هوامش الأمان حول المدينة الاستراتيجيّة وطريقها الذي يشكل شرياناً أساسيّاً لحلب، وهجوميّة عبر طرد تنظيم «داعش» شرقاً في مسارٍ يُكمل خطط السيطرة لاحقاً على مسكنة (الريف الشرقي). ويلعب انعدام الثقة بأنقرة دوراً أساسيّاً في حرص الجيش على تأمين محيط طريق خناصر – السفيرة – حلب، في مسعى للحيلولة دون أي إمكانية لقطع الطريق عبر هجمات متزامنة يُطلقها «داعش» من الشرق و«النصرة» وحلفاؤها من الغرب، ووضع «شريان حلب» بين فكّي كمّاشة كما حصل في محاولات سابقة لم يُكتب لها النجاح.

ولأسباب متداخلة، لا يبدو متوقّعاً أن تشهد محافظة حماة أي تحرك على خطوط التماس بين مختلف المجموعات المسلّحة والجيش السوري؛ فالمجموعات المنخرطة في التهدئة ستكون مدفوعةً إلى الالتزام بها، بينما تنشغل «جبهة النصرة» و«جند الأقصى» بالصراع المتنامي في إدلب، الذي يبدو قاب قوسين من التحوّل إلى حرب حقيقيّة في ما بين المجموعات، وفق سيناريو يستحضر تلك التي اندلعت إبّان الشقاق الكبير بين «النصرة» و«داعش». ويبدو هذا السبب أيضاً كفيلاً بإبقاء خطوط تماس الجيش السوري مع المجموعات في إدلب ساكنة بدورها في المدى المنظور. على المقلب الآخر، تُشكّل جبهات القتال ضد «داعش» تربةً صالحةً للتسعير من قبل معظم الأطراف التي يخوض كلّ منها معاركه الخاصّة ضدّ التنظيم المتطرف. ومع الأخذ في الاعتبار أنّ «قوّات سوريا الديمقراطيّة» لا تمتلك القدرة على تحريك العمليّات التي تخوضها ضد التنظيم في ريف الرقّة من دون ضوء أخضر أميركي، غير أنّ هذا قد يُشكّل في حدّ ذاته سبباً لتسعير خطوط التماس بين الطرفين في ريف الحسكة خلال الأيام القادمة، مع تحول «داعش» إلى مهاجم و«قسد» إلى مُدافع. بدورها، عاودت القوات التركيّة الغازية تحريك عمليّات «درع الفرات» في ريف مدينة الباب بعد أن أوقفتها قبل أيّام. وأفلحت «الدرع» أمس في السيطرة على قرية السفلانية في ريف الباب الشمالي الشرقي، وهو تقدم يُعتبر استراتيجيّاً، لأنّه يتيح حال تثبيت السيطرة قطع طرق إمداد «داعش» بين مدينة الباب وبلدة قباسين ناريّاً، ويجعل الأخيرة في مهب السقوط. وغير بعيدٍ عن «السباق إلى الباب»، تأتي عمليات الجيش السوري على محورين مهمّين: أوّلهما محور دير حافر (ريف حلب الشرقي، وجنوب الباب)، والثاني محور أوتوستراد حلب الباب (انطلاقاً من الشيخ نجّار). وبتزامن لافت، يشهد محيط بلدة خناصر الاستراتيجيّة (ريف حلب الجنوبي) معارك متواصلة بين الجيش السوري وتنظيم «داعش»، شهدت خلال الأيام الماضية تقدماً للجيش شرقاً نحو أم الميال، جب العلي، والعطشانة، قبل أن يعاود التنظيم شنّ هجمات معاكسة بغية الحفاظ على إمكانية تهديد طريق خناصر الاستراتيجي. على نحو مماثل، وبوتيرة أسرع، حقّق الجيش السوري خلال الأيام الماضية تقدّماً في جبهات ريف حمص الشرقي على حساب التنظيم المتطرف. الجيش استعاد السيطرة على نقاط مهمة في منطقة «التيفور»، موسّعاً هامش الأمان حول المطار، ومواصلاً العمل على دفع التنظيم إلى عمق البادية السوريّة. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى رابط خفي بين عمليات الجيش ضدّ التنظيم في أرياف حلب وحمص، وهو العمل على دفع «داعش» إلى الانسحاب عبر المحاور المختلفة إلى معاقله في الرقّة. وينبغي الأخذ في الاعتبار أن نجاح هذا السيناريو قد يدفع التنظيم إلى تدشين سلسلة هجمات جديدة في مساعيه للسيطرة على كامل دير الزور بغية خلق فضاء سيطرة متصل يتيح له تجميع قواته المنسحبة من مختلف الجبهات (العراقيّة والسوريّة) ما بين دير الزور والرقّة.


■ أفلح الجيش السوري أخيراً في السيطرة على كتيبة الفواعرة جنوب مطار التيفور، إضافة إلى بعض النقاط المهمة وعدد من النقاط على محور التيفور - تدمر شرق المحطة الرابعة، مكملاً بذلك التقدم الذي بدأه بالسيطرة على بئر الفواعرة (15 كيلومتراً جنوب المطار). وكثّف الطيران الحربي استهداف مواقع «داعش» في قرية مهرطان والبويض، وعلى طريق تدمر البيارات الغربية. قبلها بأيام كان الجيش وحلفاؤه قد سيطروا على كل من مفرق القريتين وبئر المر وتلة التياس. وتهدف عمليات الجيش إلى استعادة كل المواقع المهمة التي سيطر عليها التنظيم المتطرف في تقدمه الأخير (في النصف الأول من الشهر الماضي)، وعلى رأسها مدينة تدمر وحقل المهر وحقل وشركة جحار وقصر الحلابات وجبل هيال وصوامع الحبوب وحقل جزل ومستودعات تدمر. وأسهمت هذه العمليات في تخفيف الضغط (مرحليّاً) عن مناطق سيطرة الجيش في دير الزور التي يواصل الجيش إرسال التعزيزات العسكرية إليها.