ظاهرة نائمة أيقظتها الأزمة الصاخبة.. تزايد حالات زواج الرجال المسنين من القاصرات.. والمجتمع شاهد زور على العقود العرفية

ظاهرة نائمة أيقظتها الأزمة الصاخبة.. تزايد حالات زواج الرجال المسنين من القاصرات.. والمجتمع شاهد زور على العقود العرفية

أخبار سورية

الاثنين، ١٦ يناير ٢٠١٧

عندما صرخ في وجهها، وهي تقف في طابور الغاز، ظننا أنها ابنته، فهناك فرق واضح بينه وبينها من حيث العمر، ولكن ما أن أخذ منها دفتر العائلة لاستلام “جرة الغاز”، حتى تبددت تلك القناعة، وخاصة عندما طلب منه الناس أن يعاملها برفق، وأن يحمل معها “الاسطوانة”، حيث صرخ بأعلى صوته “ماحدا يدخل بيني وبين مرتي “، ورافعاً بدفتر العائلة عالياً على صفحة الزوجة الرابعة التي تحكي معاناة تلك الطفلة الصغيرة  التي لاتتجاوز الخامسة عشرة، من عمرها والمقيدة  في خانة “أبو أحمد ” الذي لم تحرجه السنون الطويلة الماضية من عمره قرابة “السبعين عاماً”  في إعلان جريمته بحق الطفولة.
وطبعاً هذه الحادثة ليست فريدة، بل هي السائدة الآن في هذه الظروف، والحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان أن الزواج المبكر الذي يشمل الفتيات القاصرات ممن لم يبلغن سن الرشد، لا يزال يفرض نفسه في المجتمعات الشرقية عموماً والمجتمع السوري خصوصاً، وقد سوق لمثل هذا الانتهاك الخطير للطفولة عقليات تقليدية متخلفة تسوق تبريرات واهية لمثل تلك الجريمة، منها أن الفتاة الصغيرة تكون عجينة بيد الزوج، يكيّفها كما شاء، ويربيها على النحو الذي يريده، وهذه الحالة كانت سائدة بكثرة قبل الأزمة، ومازالت، وأضيف إليها زواج الحاجة في هذه الأيام، وفي كلتا الحالتين أثبتت النداءات المتكررة التي تنبه لخطورة الزواج المبكر الصحية والاجتماعية والنفسية والقوانين التي تجرّم زواج القاصر فشلها الذريع في مكافحة هذه الظاهرة الخطيرة، الأمر الذي يتطلب اتخاذ إجراءات رادعة من الجهات المعنية بمكافحة جريمة يذهب ضحيتها فتيات في عمر الزهور، وخاصة في هذه الأزمة التي ابتلعت الحياة الاجتماعية، وأوجدت نمطاً حياتياً مثقلاً بالهموم ومنظومة مجتمعية تتعامل مع الواقع من باب الاستثنائية.
إجهاض متكرر
لا يمكن اعتبار بلوغ الفتاة، والذي يحدث في بلادنا، ما بين عمر 11-15 سنة، مؤهلاً للدخول لعالم الزوجية، حسب آراء العديد من الأطباء الاختصاصيين في الأمراض النسائية ورعاية الحوامل، ولا يؤشر على قدرة الفتاة على الحمل والإنجاب، فحمل الفتاة في فترة زمنية مبكرة يعرضها لمخاطر، كما يعرض الجنين لها، حيث إن مدة الحمل المتعارف عليها، وهي إتمام التسعة أشهر، تقل فرص إتمامها لدى الفتاة الصغيرة بالعمر، وجسمها لم يكتمل نموه بعد، وقد تتعرض للإجهاض المتكرر والمبكر نتيجة عدم اكتمال العلاقة الهرمونية بصورتها الصحيحة، وأضافوا: تعرّض الفتاة إلى الإصابة بفقر الدم، وخاصة خلال فترة الحمل، وهو أشهر مضاعفات الحمل بشكل عام، وفقر الدم بحد ذاته، يشكل خطراً حقيقياً على صحة الأم وحياتها، فهي لا تملك دراية كافية بأهمية العنصر الغذائي أثناء فترة الحمل والولادة والرضاعة.

استئصال الأعراف السلبية
يعد الزواج المبكر اعتداءً مقصوداً، كما عبّرت الباحثة الاجتماعية “منى محمود” على الطفولة، فالفتاة القاصر لا تزال في سن الطفولة، وهي غير مهيأة  فيزيولوجياً ونفسياً واجتماعياً، لأن تكون زوجة وأماً، وهي لا تملك القدرة الكافية على الاختيار، فتكون مرغمة على الزواج من شخص اختاره الأهل لها، ففي مثل تلك العلاقة الزوجية التي كان الاختيار فيها غائباً ستكون المسؤولية غائبة، وسترتكب الأخطاء، وحتى المسؤولية لن تتحملها الفتاة، وستلقي باللوم بشكل مستمر على أهلها.
وأضافت محمود إن الأمومة تحتاج لنضج عقلي وجسدي، فكيف يمكن لطفلة أن تنجب وتربي طفلة، فهي لا تشعر بمعنى الأمومة ولا بحجم المسؤولية الملقاة على كاهلها بالإنجاب والتربية وتلبية متطلبات الزوج والقيام بأعباء المنزل، وعلى مستوى العلاقات الاجتماعية غير قادرة على تكوين علاقات سليمة مع محيطها، ولاسيما أهل الزوج فتكثر المشاحنات والخلافات، وغالباً ما تنتهي بالطلاق، وتؤكد محمود على أن الزواج المبكر فيه اختصار لحياة الطرفين وقتل لطموحهما ومستقبلهما بالدراسة وتأسيس عمل أو مشروع ناجح، إضافة إلى أن تدبير شؤون المنزل من الناحية المالية يحتاج لخبرة وقدرة ذهنية، فكيف لطفلة أن تقدر المسألة الاقتصادية، كما تقدرها فتاة ناضجة، موضحة أن المجتمع الذي يسود فيه العرف والتقليد على القوانين وعلى كل ما أتت به الدراسات العلمية من نتائج وحقائق كارثية للزواج المبكر يحتاج إلى ثقافة موجهة تعمل على استئصال ما هو سلبي من الأعراف والتقاليد، وتجب إعادة النظر بالقوانين وتلافي الثغرات التي يمكن النفاذ منها لارتكاب جرائم بحق الطفولة البريئة.

الحكم الشرعي
إذا كان الزواج المبكر منتشراً قديماً في بداية التشريع الإسلامي فإن ذلك يعود إلى النضج في الجسد والوعي والفهم العاليين آنذاك وتكريم المرأة وصون كرامتها، كما تحدث بدر الدين الخطيب “شريعة ” إلا أن تلك القيم هبطت اليوم هبوطاً ذريعاً وتراجعت الرجولة وتمددت الطفولة، فنرى تعامل بعض الأفراد في 25 و26 من عمرهم كتعامل الأطفال في التصرفات والأحاديث، وتعيش الأنثى اليوم واقعاً غريباً عن كل ما ورد في التاريخ من اغتصاب وانتهاك لحقوقها وكرامتها وأنوثتها، وتحدث المؤنس عن الحكم الشرعي أو الفتوى التي وردت في موضوع الزواج المبكر، فمن حيث الأصل يجوز تزويج الفتاة بمجرد بلوغها الحلم، لكن المذاهب الفقهية اختلفت في تحديد العمر المناسب للزواج فأخذ المذهب الحنفي بجواز تزويج الفتاة في عمر 18 سنة فما فوق والشاب في عمر 17 وما فوق، ومن أجل علاقة زوجية ناجحة يجب أن يكون الارتباط مبنياً على التكافؤ، وأن يكون الزوج قادراً على القيام بالحقوق والواجبات والزوجة ناضجة جسدياً وفكرياً بالقدر الذي يسمح لها بتأسيس أسرة ناجحة وسليمة، وقد نبه الخطيب إلى الخروقات التي ترتكب تحت غطاء شرعي أو قانوني، مثل الزواج العرفي، الذي يكتب فيه الشيخ كتاب الطرفين أو ينظم المحامي  عقد الزواج العرفي، وهو ينطوي في الحقيقة على متاجرة بجسد الفتاة فتكون صفقة مربحة مادياً للأهل أصحاب النفوس الضعيفة، أو للتخلص منها، وخاصة في العائلات الفقيرة، مثل تلك الانتهاكات تتوجب مكافحتها بعقوبات رادعة لأنها تسيء للأنثى وللدين وللمجتمع بأكمله.
وأد القدرات
يزداد الصدع الاجتماعي يوماً بعد يوم في حياة الناس، دون أن يستطيع أحد إيقافه أو حتى التقليل من أخطاره، فالهموم والتحديات تدفع بمئات بل بآلاف الأسر إلى الخيارات المرة التي تجبرهم على تزويج بناتهم في سن مبكرة، وطبعاً قد يمنع القاضي الشرعي بعض الزيجات غير المتكافئة من ناحية العمر، ولكن ذلك لا يحصل في تلك الزيجات التي تتم خارج قاعات القصر العدلي، ومن قبل بعض المشايخ، وما أكثرها في هذا الزمن الصعب الذي يبحث فيه الأهل عن سقف يؤوي ابنتهم وكسرة خبز فقط.
الزواج المبكر اغتصاب حقيقي للطفولة، وانتهاك لكرامة الأنثى، ووأد لقدراتها وطموحاتها، وحرمان من حقها في المشاركة بالبناء والتطوير وإعاقة نمو عنصر مهم يشكل نصف المجتمع، ويحدث خللاً بقدرته على تربية جيل آخر سيأتي من بعده، لا يمكن أن يكون ناجحاً إلا إذا تلقى تربية صحيحة وسليمة.