سقوط تدمر الثاني واستراتيجية «داعش»

سقوط تدمر الثاني واستراتيجية «داعش»

أخبار سورية

الخميس، ١٥ ديسمبر ٢٠١٦

مدينة تدمر التي كانت آخرَ أرضٍ تمدد إليها تنظيم «داعش» عام 2015 عندما كان لا يزال في ذروة قوته وتوسّعه، أصبحت للمفارقة أول أرض يعودُ التنظيمُ إليها مسيطراً، بعد سلسلة هزائم كبرى تعرضّ لها في العراق وسوريا. وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن «داعش» سيتمكن من تفعيل شعاره «باقية وتتمدد»، ويعود إلى التوسع جغرافياً كما حصل منتصف عام 2014، وذلك لأسبابٍ موضوعية وذاتية عدة تتعلّق بالتنظيم نفسه، بالإضافة إلى اسباب إقليمية ودولية كثيرة.
غير أن سقوط تدمر بيد التنظيم للمرة الثانية لا يخلو من دلالات هامة على طبيعة الاستراتيجية التي ينوي اتّباعها في المرحلة المقبلة لمواجهة الضغوط العسكرية التي يتعرض لها على كل الجبهات، بدءاً من الموصل مروراً بتلعفر ومنها إلى دير الزور وصولاً إلى الرقة ثم الباب.
وعلمت «السفير» من مصدرٍ خاص أن من قاد هجوم «داعش» على مدينة تدمر ومحيطها هو أبو طلحة التونسي، الذي يُعتقد أنه هو نفسه القائد الميداني الذي شارك في معظم معارك التنظيم في البادية السورية عموماً ومحيط تدمر خصوصاً منذ مطلع العام 2015، والذي كان أشيع نبأ مقتله أكثر من مرة. ويبدو أن أبا طلحة أصبح نتيجة هذه المعارك يمتلكُ الخبرة الكافية التي أهّلته بحسب قيادة التنظيم لقيادة معركة تدمر الأخيرة.
وما يعطي معركة تدمر دلالات خاصة، هو أنها جاءت بالتزامن مع انشغال التنظيم بثلاث معارك مصيرية بالنسبة إليه، هي معارك الموصل والرقة والباب، وهو ما يعني أن التنظيم لا يعاني من أي نقصٍ في عدد مقاتليه، وأن باستطاعته خوض ثلاث معارك دفاعية في أهم معاقله، مع شنّ معركةٍ هجومية في منطقة أخرى، في التوقيت ذاته، لا سيما إذا صدقت معلومات وزارة الدفاع الروسية بأن عدد المهاجمين في تدمر بلغ حوالي أربعة آلاف عنصر «داعشي». ومن شأن هذا أن يُلقي بظلالٍ كثيفة من الشكوك على إعلان وزارة الدفاع الأميركية أن «التحالف الدولي» ضد تنظيم «داعش»، قضى على 50 ألفاً، على الأقل، من عناصر التنظيم في سوريا والعراق، خلال عامين. إذ لا يُمكن أن يخسر التنظيم كل هذا العدد من المقاتلين من دون أن يعاني من مشكلة عددية، ثم يظلُّ بعد ذلك قادراً على التحشيد وفتح جبهات جديدة للقتال.
ويبدو أن اختيار تدمر لتكون هدف الهجوم لم يكن من قبيل المصادفة، بل هو ترجمة عملية للاستراتيجية التي يخطط «داعش» لتنفيذها في المرحلة المقبلة. وتقوم هذه الاستراتيجية على تعزيز وجوده فوق الأراضي السورية للاستفادة من الظروف المعقدة التي تحيط بالصراع في هذا البلد وما يتيحُه للتنظيم من إمكانات للمناورة والالتفاف أكثر مما تتيحه ظروف الصراع في العراق التي تتخذ شكل الصراع بين قطبين فقط هما «داعش» من جهة، والجيش العراقي و «الحشد الشعبي» بالتعاون والتنسيق المتفاوت مع كل من إيران والولايات المتحدة و «التحالف الدولي» من جهة أخرى.
وقد فشل «داعش» خلال الأشهر الماضية في تحقيق أي تقدم في مدينة دير الزور التي كان يخطط للانفراد بالسيطرة عليها بعد إسقاط مطارها العسكري. لذلك كانت تدمر هدفاً مناسباً لأسباب عدة، أهمها وقوعها في البادية السورية التي تعتبر امتداداً جغرافياً للصحراء العراقية. ويدرك التنظيم بحكم تجاربه السابقة أن هذه المنطقة ستكون «محميته» الخاصة إذا خسر المدن الرئيسية التي يسيطر عليها، لذلك سيحاول جاهداً بسط سيطرته على أكبر جزء منها تحضيراً لزمن الهزيمة والانحياز.
والسبب الثاني لتكون تدمر هدفاً مناسباً لـ «داعش» أن التنظيم بحكم الأزمة المالية التي يمرُّ بها بعد خسارته قسما كبيرا من موارده المالية، أصبح بأمسّ الحاجة إلى مثل هذه الموارد وهو ما يمكن أن توفره له حقول النفط والغاز وكنوز الآثار في تدمر. والسبب الثالث هو أن التمركز في تدمر يعطي التنظيم مروحةً واسعة من الخيارات للتحرك في اتجاهات مختلفة سواء في الداخل السوري، خصوصاً باتجاه القريتين والقلمون الشرقي، أو نحو حدود الدول الأخرى مثل الأردن ولبنان. وهو ما يعني أن التنظيم يسعى إلى امتلاك أوراق قوة تُخوله الحفاظ على إمكانية المناورة في ظل الحملات العسكرية الضخمة التي يتعرض لها في كل من الموصل والرقة والباب، كما يسعى إلى الإمساك ببعض الخيوط التي تمكنه من خلط الأوراق إقليمياً في عدد من الدول إذا اضطر لذلك. لكن التنظيم قبل ذلك عليه تثبيت سيطرته في تدمر، وهو ما يبدو أمراً صعباً نظراً لطبيعة المدينة الجغرافية والعمرانية التي تجعلها هدفاً سهلاً لأي هجوم مضاد. وكان الجيش السوري قد تمكن من استعادة تدمر في شهر آذار الماضي بعد أسبوعين من القتال فقط.
لذلك قد يكون تنظيم «داعش» استغلّ اندلاع معركة حلب وانشغال الجيش السوري بها من أجل شنّ هجومه على تدمر، لكن هذا التزامن لا يعني وجود ترابط بين المعركتين، على الأقل لأن «داعش» غير معنيّ بمعركة حلب، وليس له أي وجود في أحيائها الشرقية، بالإضافة إلى أنه يعتبر جميع الفصائل هناك عدّوة له. والأرجح أن التنظيم نفذ هجوم تدمر تنفيذاً لأجندته الخاصة مستغلاً التعقيد الذي يشوب ظروف الصراع في سوريا، فاختار ساعة الصفر بالتزامن مع معركة حلب لإدراكه بناءً على قراءته للسياسة الاقليمية والدولية، أن هذه الخطوة لن تلقى اعتراضاً من قبل المحور المناهض لدمشق وعلى رأسه واشنطن، إذ من مصلحة هذا المحور التضييق على الجيش السوري ومنعه من استكمال إنجازه التاريخي في حلب.
وسواء كان الأمر يتعلق بدعم خارجي لتنظيم «داعش» من أجل تنفيذ هجوم تدمر أو مجرد تقاطع مصالح مع بعض الدول، فإن ذلك غير كافٍ لتبرير سقوط المدينة بهذه السرعة.
وربما لم يكن الجنرال يوري بالويفسكي رئيس الأركان الروسية السابق مجانباً للصواب عندما اعتبر ما جرى في تدمر «دليلاً على وجود أخطاء في تخطيط العمليات العسكرية في سوريا». لأن السقوط المدوّي لمدينة تدمر، ومعها جميع حقول النفط والغاز في المنطقة وصولاً إلى مسافة ستة كيلومترات عن مطار «التيفور» العسكري ذي الأهمية الاستراتيجية، إنما يشير إلى وجود ثغرات في التنسيق بين الجيش السوري من جهة، وكل من القوات الرديفة والحليفة من جهة أخرى.
وتؤكد جميع المعطيات المتوافرة أن تدمر لم تسقط بسبب قلة أعداد المقاتلين المدافعين عنها، إذ كانت تنتشر حولها قوة كبيرة تبلغ حوالي ثلاثة آلاف مقاتل وهي أكثر من كافية لصدّ أي هجوم، أو على الأقل لمنع سقوط المدينة بمثل السرعة التي سقطت بها. بل كان السبب الرئيسي لسقوطها هو ضعف التنسيق العملياتي بين القوات المدافعة عنها، والذي أشاع بدوره جواً من الإرباك والفوضى بين صفوف الجنود، وأدى إلى انهيار الدفاعات ودخول «داعش» إلى تدمر للمرة الثانية.