من مخيم غابة كاليه: أفضّل الموت في سورية

من مخيم غابة كاليه: أفضّل الموت في سورية

أخبار سورية

الجمعة، ٢٨ أكتوبر ٢٠١٦

«لا أعرف مَن نحن. هل نحن كائنات فضائية أم حيوانات؟ لماذا اتخذت الأمور هذا الشكل. أمر غريب حقاً. أنا أخجل لأني أعيش هنا، في مخيم غابة كاليه. أفضّل الموت في سوريا. بلدي يعيش حالة حرب، لو بقيت فيها، لكنت مت أو قتلت على الأرجح. لكنه موت مرة واحدة فقط. هنا. أموت كل يوم».
شهادة الشاب السوري وسيم، تفضح معاناة الآلاف، ليس وحده في الجحيم. مخيم غابة كاليه. معتقل كبير بلا حراسة. متروك لبؤسه وناسه القادمين من بلاد حافلة بالحروب والمجاعات والاستبداد. هدفهم أن يتربّصوا طريقاً يصلون بها بريطانيا العظمى... إذاً، هو مكان إقامة مؤقت لعابرين لا يعبرون. أغلقت بريطانيا عيونها وأبوابها. قبلها مغلق من زمان. فرنسا فضلت التعايش مع اللجوء وناسه، من دون أن تشهر شعار حق اللجوء. تناسته، وفضلت عليه الاختباء، إلى ان انفجرت باريس مراراً، وإلى ان أصبح اللاجئون والإسلام والهوية والحدود المفتوحة و«شنغن»، عناوين المعركة الرئاسية التي اندلعت رافعة شعارات الخوف من اللاجئين والإسلام، وضرورة تنقية الهوية الفرنسية مما يشوِّه أصولها «الغولية»، حسب تعبير الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي.
بالأمس، أزيل مخيم «غابة كاليه». أُحرق، أو أحرقوه غضباً. انتهت عملية إجلاء اللاجئين، وعددهم حوالي ثمانية آلاف، بينهم ما يقارب ألف من الفتيان والفتيات، دون عمر الثامنة عشرة. تمّ توزيعهم على أطراف كثيرة في مدن وبلدات. علا صراخها، دفاعاً عن «أمّتها» وخوفاً من تحوّل المدينة أو البلدة «وكراً» للاجئين. الذين هربوا من الطوابير المحروسة بالشرطة الفرنسية، وصلوا باريس. أضيف إلى المخيمات الموجودة. في العراء الباريسي أو تحت جسور «المترو» ما يقارب الألف فار، من وجه «الإقامة الجبرية» في مراكز الإيواء والتوجيه. هؤلاء، لديهم حل واحد، ان يصلوا بريطانيا.
أوروبا أغلقت أبوابها. لم يتوقف بعد سيل اللاجئين. تصدير اللاجئين مستمر براً وبحراً. لا يصل الجميع إلى بر المنافي. يأخذهم البحر ويمحو أثرهم. ومن كان ذا حظ، يصل مخيمات البؤس والحرمان والإذلال. كيف يعيشون هناك؟
تحتفظ «فرانس كولتور» في أرشيفها الحديث جداً، تسجيلات صوتية للاجئين في مخيم الغابة في كاليه. الشاب السوري وسيم، يروي يومياته المتشابهة. كل يوم، يشبه اليوم الذي سبقه، ويشبهه اليوم الذي يليه. «هنا أستيقظ في السابعة صباحاً. لا يصلح المخيم لكائنات بشرية. المياه غير صالحة للشرب. ملوّثة وكريهة. النوم على خشب في خيمة من خشب وبلاستيك. بعد النهوض، أقف في الطابور لمدة ساعتين بانتظار دوري، لدخول دورة المياه. وهي مبتذلة، لست دقائق فقط. أنتهي من المرحاض، وأصطفّ في طابور، لمدة ساعة على الأقل، لأحصل على وجبة الصباح. نمشي في طابور إلى لا مكان. نمضي النهار ونحن في الطوابير. من طابور إلى آخر. نفعل ذلك، فقط، كي نبقى على قيد الحياة... الجحيم هنا. ولو لم أؤمن بالعائلة، لكنت فضلت العودة إلى بلادي، لأموت فيها. عن جد، أنا أتعفّن هنا».
كان وسيم مواطناً سورياً، يعيش بأحلام مستقبلية. أمضى في الحرب أربع سنوات. خوف الأولاد وخوفه عليهم. أصيبت امرأته بشظية. لم يعُد قادراً على العيش. مثله كمثل عشرات الآلاف الذين نزحوا أو حلموا باللجوء. «المحطة الأولى كانت لبنان، في هذا البلد تركت عائلتي. وأنا كنتُ أحلم بما يُسمّى لمّ الشمل... حالياً، لا أجمع أبداً. أفكاري مشتتة. وحدتي قاتلة».
يروي وسيم حياته في سوريا، وأشد ما يفاجئه، أنه كان يتوقع أن يعامَل بالمثل. يقول: «وسط الحرب، كنت أحلم بمستقبل لي ولأولادي. أحلامي لن تتحقق في سوريا. فلأجرّب الرحيل. فقد يكون ذلك من حظ أولادي كذلك. لم أتوقع أن أعامَل هكذا. عندما كنتُ في سوريا، استقبلت في بيتي لاجئين لبنانيين وعراقيين وفلسطينيين في دمشق كانوا ضيوفاً، وما كانوا لاجئين. لم أفكر أن أصبح ذات يوم لاجئاً...».
يتحسّر وسيم. هو ليس وحده كذلك. كثيرون في كاليه يتمنّون لو يعودون إلى بلادهم. حجتهم، انهم هنا في المخيم، ليسوا بشراً. «والأسوأ، أن لا أحد يسأل عنا. وإن سألنا عن أحد يُصغي إلينا، فلا نجد. نريد أن يفهمونا. لم نأتِ إلى هنا من أجل الثروة أو من أجل تحسين أحوالنا. نحن هنا فقط، كي نعيش بكرامة وكفاف. لسنا كذلك الآن».
يتحدّث وسيم عن زملائه. يصفهم ككائنات بشرية. «بعضهم متعلم، مهني، تقني. أكثريتهم يتقن الإنكليزية. جلّ ما يريدونه، بناء حياة متواضعة مستقلة في مكان ما من هذا العالم».
وعندما سُئل أن يعرّف بنفسه. لم يخجل بانتمائه الجديد: «أريد أن نُعامَل كلاجئين» نقطة انتهى... لكنه، ليس مرحّباً بنا في أي مكان. نعرف ماذا يحصل لأمثالنا في المخيمات. مأساة، السوريون غير مرحَّب بهم في أي مكان... إنما، ما زال عندي بصيص حلم. الحرب ليست خطأ ارتكبته. أنا لا أستطيع أن أغيّر قدري الآن. الحرب ستنتهي ذات يوم. سأعود إلى بلدي لأعيش فيه ككائن بشري. هذا الأمل الوحيد الذي استبقيته معي».
أين هو وسيم اليوم؟
أين هم رفاقه، بالآلاف؟
لم تنشر أسماء الذين وزعوا على مدن وبلدات فرنسية. ستهدأ عاصفة المتاجرة باللاجئين، بعدما دفع هؤلاء، ثمن تغوّل العنصرية.
حدث كل ذلك، في الوقت الذي تداعت فيه هيئات ثقافية وعلمية في فرنسا، لعقد ندوة اختصاصية بعنوان «الرحيل»، شارك فيها عدد من الاختصاصيين، وأصدرت «لوموند» الفرنسية كتاباً خاصاً بالمناسبة كتب فيه غيّوم كالافا، عن مأساة النزوح واللجوء، وعن الاستقبال الصعب وتقنيات التعامل مع التراجيديا المستمرة. أرقام مذهلة لعالم يتزايد فيه عدد النازحين واللاجئين، والأسوأ، اعتياد البشر والمسؤولين على التعايش الأخلاقي مع هذه المأساة.