المشافي الخاصة .. منافسة خاسرة في مضمار جودة الخدمات .. وارتفاع فواتيرها يضلل هواة البرستيج المرضي..

المشافي الخاصة .. منافسة خاسرة في مضمار جودة الخدمات .. وارتفاع فواتيرها يضلل هواة البرستيج المرضي..

أخبار سورية

الثلاثاء، ٢٥ أكتوبر ٢٠١٦

تجلس أم توفيق على طرف السرير في المشفى تبكي وتندب مترحمة على ابنتها من جهة، وعلى الزمن الماضي من جهة أخرى… ذلك الزمن البسيط الذي كانوا يتعلمون ويتعالجون في المدارس والمشافي الحكومية دون تكبّر، ولم يكن للقطاع الخاص وجود كبير كما هو اليوم لدرجة طغى فيها على القطاع العام، فابنتها التي أبت أن تجري عملية الولادة القيصرية إلّا في مشفى خاص ظنّاً منها أن الخاص مخّدم أكثر من العام وكنوع من التفاخر والبرستيج العام أمام المجتمع، لاقت حتفها بعد إجراء هذه العملية جرّاء خطأ طبي فادح حسب كلام ذويها.. هذا الخطأ الذي يمكن أن يحصل حتى لو خضعت للعملية في مشفى حكومي، لكنّ الهالة العظيمة التي يصوّرها المحيط عن خدمات المشافي الخاصة، جعلت الكثيرين عرضة لأن يكونوا سلعة تجارية وطعماً يقعون فيها بفخ ووهم جودة تلك المشافي.
مشروع تجاري
لعلّ ملائكة الرحمة وصفة الإنسانية التي يسعى أساتذة الجامعة لغرسها في نفوس طلابهم طوال سنوات الدراسة، تفقد قيمتها ومعناها عند أول يوم دوام لهم في مشفى خاص، ولا سيّما خلال السنوات الأخيرة، إذ كثرت الحالات التي سمعنا عنها والشكاوى التي وردت إلى وزارة الصحة عن قيام عدد من المشافي بإغلاق أبوابها في وجه المرضى، وهم في حالات إسعافية تحت ذريعة ضرورة إعطاء المشفى سلفة قبل دخول المريض إليه، ما جعل وزارة الصحة تقوم بتوجيه العديد من الإنذارات لتلك المشافي لرفضها استقبال حالات إسعافية، ولم ينته الأمر عند رفض تلك المشافي الخاصة استقبال المرضى، بل تعدّى ذلك لرفعها التسعيرة تماشياً مع ارتفاع وهبوط سعر صرف الدولار، حالها كحال التجار لتصبح تلك المشافي مشروعاً تجارياً خالياً من الرحمة والإنسانية والرقابة والمساءلة، هدفها الأول والأخير هو الربح المادي.

ابتزاز للمرضى
ولم يتوقف الحال على أصحاب تلك المشاريع التجارية المغلّفة بطابع الإنسانية والرحمة، بل نجد قلّة اكتراث الأطباء العاملين في المشافي الحكومية لحال المرضى عند مراجعتهم لتلك المشافي، في حين يتغيّر الوضع إذا ما قام المريض بمراجعة الطبيب ذاته، لكن في عيادته الخاصة، علماً أنّ الطبيب يتقاضى راتبه الكامل من المشفى الحكومي لقاء عمله هذا، إلّا أن جشع البعض لم يعد له حد، ومع إصرار هؤلاء الأطباء على مراجعة المريض لهم في عياداتهم الخاصة يقع المريض في مصيدة تعرفة الطبيب التي تتأرجح هي الأخرى بين منطقة وثانية تبعاً للمستوى الاجتماعي للمناطق، ضاربين التعرفة الخاصة التي وضعتها لهم وزارة الصحة بعرض الحائط.

إهمال واستغلال
بين إهمال المشافي الحكومية واستغلال المشافي الخاصة وقع الكثير من المرضى ضحايا لهم، فأبو محمد والد لأربعة أطفال، فقد منزله ومشغل الخياطة الصغير الذي كان يشكل مصدر الرزق الوحيد له في هذه الأزمة، واكتفى بمنزل استأجره في منطقة مخالفات، والعمل لدى إحدى الورش في المنطقة نفسها، يكفيه عوز الحاجة والسؤال إلى أن أصيب بأزمة قلبية اضطرته للذهاب إلى مشفى حكومي، والخضوع إلى عمل جراحي، ليبدأ رحلة استشفاء طويلة أرهقته مادياً وجسدياً، واضطرته لبيع ما بقي له من أثاث منزل، وعلى الرغم من مضي شهر على إجراء عمليته، إلا أن ألم العمل الجراحي كان يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، فاضطر للذهاب إلى طبيب نصحه بإجراء عمل جراحي ثان لعدم نجاح العملية، على أن يقوم بمراجعة المشفى الخاص الذي يعمل به ليكون ربحه مضاعفاً، ولم يكن أمام هذا الرجل سوى الخضوع لهذا الوضع، والنزول في ذلك المشفى الذي بدأ ينهش جيبه منذ الدقائق الأولى لدخوله إليه، فإجراء فحوصات دورية تكلّف المواطن آلاف الليرات، ما يجعله يعدل عن التفكير بإجراء عمل جراحي، والمنامة حتى لو كلّفه ذلك حياته، وهذا ما فعله أبو محمد الذي غادر ذلك المشفى حاملاً فقر جيبه لا حول له ولا قوة سوى أن يعيد رحلة العمل الجراحي في مشفى حكومي آخر، علّ وعسى يكون الاهتمام والعناية أكثر ولو بدرجة واحدة من المشفى السابق.

“برستيج” اجتماعي
وبالطبع لا يمكننا أن نجزم هنا أن خدمات المشافي الحكومية جميعها سيئة، بل على العكس، كثيرة هي الحالات التي شهدناها عن خدمات سيئة، أخطاء طبية مخيفة ارتكبها أطباء يعملون في مشاف خاصة، وتم إنذارهم ومعاقبتهم، إلّا أن “البرستيج” الاجتماعي جعل الكثيرين يقومون بمراجعة المشافي الخاصة عند حاجتهم، ويتفاخرون في مجتمعهم المحيط بالمعالجة في تلك المشافي كنوع من التباهي والتفاخر، ليصبح العلاج في المشافي الخاصة كتعليم الطلاب في المدارس الخاصة عند البعض للاستعراض أمام المحيط، وهذا ما حصل مع أحد أصدقائنا الذي أصيبت والدته بمرض عضال، وطلبت من أبنائها إسعافها إلى مشفى خاص مشهور كي لا يتهمها الجيران بالبخل، ولأنها ستترك ورثة كبيرة لأبنائها، لذا من الواجب عليهم إسعافها إلى مشفى خاص لا حكومي، وبالفعل تم نقلها ووضعها في مشفى خاص لمدة أسبوع إلى أن دخلت في غيبوبة تامة لم تعد تشعر بما حولها، ما جعل أبناءها يقومون بنقلها إلى مشفى حكومي للتخفيف من الأعباء المادية عليهم كونها لم تعد تعرف أنها في مشفى خاص أو عام، وكون الأطباء أخبروهم بأن لا أمل بحياتها حتى لو بقيت في أحدث وأرقى المشافي الخاصة إلى أن توفيت.

قوانين ورقابة
نستطيع الجزم بأن جميع المشافي الخاصة قامت برفع تسعيرتها أضعافاً مضاعفة خلال سنوات الأزمة دون التقيد بالتسعيرات التي وضعتها وزارة الصحة، وهنا نفت وزارة الصحة قيام المشافي بوضع تسعيرات مخالفة لها، حيث أكد لنا الدكتور سليمان مشقوق “مدير المشافي” في الوزارة أن تحديد أجور المشافي الخاصة، وتكاليف العلاج، والعمليات الجراحية، وفق القرار التنظيمي لعام 2004 وتعديلاته، إذ لا يحق لأي مشفى خاص العمل بغير هذه التعرفة إلا بقرار تنظيمي جديد، أما فيما يخص العقوبات في حال وجود أجور زائدة فتتم وفق القرار التنظيمي لعام 2014، والتي تندرج من التنبيه، ثم الإنذار، فالإغلاق، وعين الرقابة على المشافي الحكومية والخاصة لا تنام، فالرقابة على المشافي الخاصة تتم من قبل مديريات الصحة، ومديرية المشافي وفق تعميم ينص على أن تكون الجولات الرقابية دورية على المشافي الخاصة والعامة، ومشافي الهيئات العامة كل ستة أشهر، وفي رد صريح من وزارة الصحة لنا حول قيام بعض المشافي الخاصة ببيع الأدوية لغير المرضى في المشفى، أكد مشقوق أنه لا يحق للمشافي الخاصة القيام بذلك، وكذلك لا يحق للمشافي استقبال مرضى أكثر من العدد المحدد للمشفى.

وجوب شكوى رسمية
كذلك كان لنقابة الأطباء رأي مؤيد للوزارة بأن المشافي لم ترفع تكاليف العلاج، بينما الذي ارتفع، حسب رأي نقيب أطباء سورية عبد القادر الحسن، هو قيمة الأدوات الطبية، والأدوية، والمواد التي يستخدمها الأطباء في العمليات الجراحية من مواد تخدير وتعقيم، ومازوت، إضافة إلى كلفة أعمال الصيانة، وقطع التبديل، والضرائب العقارية، وبالتالي ارتفاع أجور المشافي يعود لارتفاع كل شيء من المحروقات إلى القطع الطبية، ومع ذلك فإن وزارة الصحة، ونقابة الأطباء تقومان بمعالجة جميع الشكاوى التي ترد إلينا، ودراسة الفواتير المقدمة من المرضى، ومقارنتها بالتسعيرة الموضوعة من قبل الوزارة، وفي حال وجود فارق لمصلحة المريض، يتم إلزام المشفى بإعادة هذا الفارق للمريض، وتتخذ إجراءات الإنذار أو الإغلاق بحق المشفى المخالف، الفكرة المهمة والأساسية هنا أن الجهة الرقابية لا يمكن أن تقوم بواجبها بشكل فعّال إلا بموجب شكوى مسجلة من قبل مواطن تعرض لمخالفة القانون، وقد وردت شكاوى حول وجود تجرثم في أقسام معينة بمشفى خاص، حيث تم التنبيه الفوري، وإيقاف العمل في القسم المتجرثم إلى حين اتخاذ التدابير والإجراءات المناسبة لتحقيق شروط التطهير والتعقيم.

أولويات مادية
أسعار خيالية، وأرقام مخيفة وصلت في تلك المشافي، ففي أحد مشافي محافظة دمشق ارتفعت تكلفة العملية الأقل جهداً وتكلفة ووقتاً، وهي الولادة القيصرية إلى حوالي 250 ألف ليرة مع منامة ليلة واحدة، في حين بلغت تكلفة الطبيعية مئة ألف ليرة، وتقل التكلفة هذه ببضعة آلاف في المشفى نفسه في حال طلب المريض خفض الرفاهية في غرفته، هنا تعددت الأسباب التي تذرّع بها مديرو المشافي الخاصة لرفع تسعيرة العلاج بالمشافي الخاصة، وذلك لأن تعرفة وزارة الصحة غير متناسبة مع الوضع الحالي، ومع ارتفاع ونقص وصعوبة تأمين القطع الطبية وصيانتها، ناهيك عن هجرة كوادر طبية هائلة من البلد خلال سنوات الأزمة، هذا ما جعل الطلب على الأطباء المختصين وذوي الخبرة لهذه المشافي أمراً مرغوباً بشكل كبير، خاصة خلال السنتين الأخيرتين، فإذا ما التزمت المشافي الخاصة بتسعيرة وزارة الصحة، لن يبقى أي مشفى خاص يعمل في ظل الأزمة الراهنة، كذلك سيلجأ الأطباء إلى إغلاق عياداتهم الخاصة، أما فيما يخص امتناع معظم المشافي الخاصة عن استقبال الحالات الإسعافية، فكانت الإجابة وجود مشاف عامة لهذا الغرض، كما أن عدداً لا يستهان به من المرضى الذين جاؤوا بحالات إسعافية إلى المشافي الخاصة خرجوا منها ولم يسددوا كامل تكاليف العلاج المترتبة عليهم، ومما لا يختلف عليه اثنان أن الأولوية في تلك المشافي هي أولويات مادية لا إسعافية، مع العلم أن المشافي الخاصة لا تقوم بإجراءات الإسعاف الضرورية قبل تسديد سلفة على الحساب مهما كانت تلك الحالة الإسعافية اضطرارية.
ميس بركات