بين الواقعية السورية وأوهام الآخرين: ماذا بعد لقاء كيري لافروف؟

بين الواقعية السورية وأوهام الآخرين: ماذا بعد لقاء كيري لافروف؟

أخبار سورية

الأحد، ٢٨ أغسطس ٢٠١٦

فرنسا- فراس عزيز ديب
بعد انتظارٍ لساعات، على أملِ تصاعدِ الدخان الأبيض من مباحثات (كيري لافروف)، خرجَ علينا الرجلان بمؤتمرٍ صحفي ليعلنا أن كل ما تم التوصل إليه في الشأن السوري هو (اتفاق إطار).
مشهدٌ مكرّرٌ للمرة الـ(..)، ربما لم يعد بإمكاننا أن نُحصي عدد المرات، لكن يمكننا أن نتساءل: ألا تكفي كل «الإطارات» التي توصلوا إليها خلال سنوات الحرب على سورية لوضع العربة على طريقِ الحل؟ الجواب ببساطةٍ لا؛ لأن الإطارات لا تُجدي نفعاً إذا كان المحرِّك أساساً لا يعمل، فالتجربة علمتنا أن محرك المصداقية والجدية الأميركية في إنهاء الحرب على سورية معطل حتى إشعارٍ آخر.
كان لافتاً أن يتحدثَ لافروف في المؤتمر الصحفي بأن النقاش شملَ جميع القضايا، بما فيها اليمن والعراق وأوكرانيا. قد يبدو الأمر وكأنّ المباحثات كانت أشبهَ بسلِّةِ حلٍّ كاملة، لكن من الواضح أن حجم الخلافات في سورية تبدو هي العقبة الأساسية أمام باقي الحلول، فالأميركي مثلاً مستعجل لإنهاء ورطة «آل سعود» في اليمن، أما الوضع في أوكرانيا فإن الأميركي ينظر إليه بوضعِ التعادل بين الطرفين في المكتسبات.
هذا الأمر بدا واضحاً من خلالِ بعض التناقضات في كلام الرجلين، ففي الوقتِ الذي كان فيه كلام لافروف واضحاً عن الرؤية الروسية المبنية أساساً على ثوابت ما تقبل بهِ القيادة السورية، جدَّدَ كيري أسلوب التلاعب بالألفاظ للهروب من إبداء الموقف الواضح. في الوقت الذي كان لافروف يكرِّر تسميةَ كل من (داعش والنصرة وجماعات إرهابية أخرى)، كان كيري كالعادة يتحدث فقط عن «داعش» و«النصرة». هو لم يشأ فقط أن يتهرَّب من احتمالية وجود تنظيماتٍ إرهابيةٍ غيرهما، لكنه كالعادة كرَّر بيع المواقف المجانية بما يتعلق بـ«النصرة»، فحديثه عن شرعية استهدافها أو عدم تبديل وجهة النظر حولها مهما بدلت مسمياتها، هو موقفٌ مجاني لأن «النصرة» أساساً مصنفةٌ إرهابية وفق قرارات مجلس الأمن ولا يعني الأمر نضوجاً في الموقف الأميركي، بل ربما إن كنّا أكثر واقعية فإن الأمر يمكن فهمه من وجهة النظر الأميركية بعبارةٍ بسيطة:
ليس هناك مجموعاتٌ إرهابية ثانية، لكن هناك تداخلٌ بين «المجموعات المعتدلة» و«النصرة». هذا المسار خطر ولا يمكن النظر إليه بعين التفاؤل، تحديداً أن كيري يتمسك بفرضية أن الدول الإقليمية المعنية بالملف السوري سيكون لها دور في تحديد هوية الجماعات الإرهابية، أي إننا عدنا للمربع الأول، فماذا عن «أحرار الشام» و«جيش الإسلام» وغيرهما، هل سيقبلون بتسويةٍ على طريقةِ «داريا»؟
أما ما يخص تقليص عدد الأسئلة واختصارها، فكان واضحاً أن الهدف منه هو الهروب من أسئلةٍ جوهريةٍ كان العديد من الصحفيين يتحضر لطرحها وعلى رأسها: ما بنود الحل السياسي؟ وماذا عن مستقبل الرئيس الأسد؟
أسئلةٌ سعى الطرفان للهروب منها ربما لأن لا جواب لديهما، تحديداً أن «كيري» قال إنه عندما يجهز الحل السياسي فسيُطلع الجميع عليه، وهو ما يعني أننا لا نزال غارقين في التفاصيل، وربما فإن أصدق ما قاله «كيري» في كل هذا المؤتمر هو دعوته لمن سماهم (الشعب والمعارضة) للجلوس على طاولة المفاوضات، لا ندري إن كانت زلَّةَ لسان أو خطأ في الترجمة، لكنها بكل الأحوال عبارةٌ تختصر الكثير، تحديداً أن الشعب السوري سيكون أول شعبٍ في العالم عليه الجلوس مع «معارضيه» وليس مع معارضي نظامه السياسي. أما أصدق ما قاله لافروف ويستحق الوقوف عنده هو حديثه عما سماها «الواقعية» التي تتعاطى بها القيادة السورية والتي يجب على الأميركيين والأتراك الاستفادة منها لتحقيق التعاون مستقبلاً، فهل من رابطٍ بين كلام لافروف عن الواقعية، وما جرى في «جرابلس»؟
في الأسبوع الماضي تساءلنا ماذا يمكن لـ«بايدن» أن يقدِّم لـ«أردوغان»، فهل أن حلم المنطقة العازلة بدأ يتحقق مع الغطاء الأميركي لدخول القوات التركية «جرابلس» وحديث الأميركيين بأن هذه القوات ستبقى ما دامت الحرب على داعش مستمرة تحديداً أن «أردوغان» لا يمكن له أن يُقْدم على خطوةٍ كهذه من دون تنسيق، وعندما نقول تنسيق فالأمر حُكماً لا يشمل الأميركي فقط، أو أن هذه الفرضية نسفَها كلام الأميركيين ذات نفسهم بأنه لا مناطق آمنة في سورية، وكلام «زاخاروفا» بأن حظر الطيران لا يتحقق إلا بالتنسيق مع دمشق.
في المؤتمر الصحفي كان لافتاً أن «لافروف» لم يعطِ جواباً محدَّداً عن الاحتلال التركي لـ«جرابلس»، بل إن كلامه كان تكراراً للموقف الروسي الرسمي الذي تلا ليلة دخول القوات التركية لـ«جرابلس»، حديثٌ عن أهمية مكافحة الإرهاب وضرورة التنسيق مع دمشق، هذا الأمر يدفعنا إلى وضع عنوانٍ عريض لما جرى في «جرابلس» بعيداً عن التفاصيل:
هو أقل من منطقةٍ آمنة، وأكثر من مجرد طمأنات لكل من الأتراك والسوريين بأن حلم الدولة الكردية في الشمال السوري ذهب بلا عودة وإلى الأبد، مهما سعى «آل سعود» للعب بالوقت الضائع وفتح أبواب اتصالٍ مع الانفصاليين الأكراد وعرض المساعدات المادية والتسليحية لهم («آل سعود» يحابون كل من يعادي ما يسمونه «النظام السوري» لأنه حسب زعمهم كافر، ماذا عن دعمكم للماركسيين؟ ثم ماذا عمن يدَّعون الماركسية، وهم يفتحون قنوات اتصالٍ مع الوهابية القميئة؟). مرةٌ جديدة يخطئ من يظن نفسه يحمل هم قضيةٍ ما، قلنا لهم إياكم والانتفاخ والظن بأنكم لاعبون في الجغرافية المعقدة، لأنكم لستم أكثر من مجرد أوراقٍ على موائد التفاوض وبالكاد تستطيعون حجز مكانٍ لكم في المباحثات القادمة- إن تمت- فماذا ينتظرنا؟
في الإطار العام لا يمكن الحديث عن مصداقية تسريباتٍ هنا وهناك حول ما تم الاتفاق عليه بين الروس والأميركيين، لكن حديث «لافروف» أن هناك أموراً بحاجةٍ لتدقيق سيعمل الخبراء على إنهائها توحي بأن القصة ليست سياسيةٌ لأنها ليست بحاجة لخبراء، فالقضايا السياسية تم تجاوزها إن صدقت النيات الأميركية، الأمر متعلقٌ بالعمل الميداني تحديداً أن «لافروف» أكد أن استخدام التنظيمات الإرهابية لإضعاف القيادة السورية أمرٌ أثبت فشله، وركز على أن أي حلٍّ يجب أن ينطلق من فرز «المعارضة المعتدلة» عن الإرهابية، من جهةٍ ثانية فإن النظام التركي ومنذ ما بعد الانقلاب مرَّر العديد من الرسائل عن ضرورةِ إيجاد حلٍّ لما يجري في سورية، وربما أن «لافروف» مرَّر رسالةً وهي ضرورة التعاون مع الحكومة السورية التي تتصرف بواقعيةٍ، فهل سيكون الرد التركي واقعياً من خلال التنسيق مع القيادة السورية؟ نكاد نجزم بكلمةٍ «نعم» ولو كان التنسيق غير مباشر، لكن إن تحقق هذا الأمر فعلينا أن نعي وقتها أنه لا يمكن أن يكون قد تم إلا بموافقةٍ أميركية، وهذا ما كانت تريده أميركا بالذات من «أردوغان»، أي إن محاولة الاستدارة بمواقفه يجب أن تتم وفق رؤيتها، فهل ستسمح أميركا بذلك؟
ربما أميركا لن تسمح، لكنها لا تبدو بالوقت ذاته قادرةً أن تعرقل تحت ضغط الوقت، تحديداً أن اجتماع «كيري لافروف» لم يناقش فقط «الأزمة» في سورية، فهل هذا الأمر هو تحولٌ ما في السياسة الأميركية؟ ربما نعم لكن مع الأميركيين علينا دائماً أن نطبق الحكمة:
تمنى الأفضل واستعد للأسوأ.. وفي كل ما سيجري مستقبلاً ليس هناك أسوأ مما جرى، بما فيها عودة «أردوغان» لحمامة سلام في هذه المنطقة… إنها لعنة السياسة…