حمص القديمة.. تفاصيل خراب لتاريخِ لم ينته

حمص القديمة.. تفاصيل خراب لتاريخِ لم ينته

أخبار سورية

السبت، ٢ يوليو ٢٠١٦

يُحدّق الصحافي الصيني الذي يزور حمص للمرة الأولى مطولاً بالدمار الذي يحاصر نظره من كل الجهات في حي جورة الشياح في حمص القديمة. ينقل عدسة كاميرته من بناء إلى آخر، يتفحص عن كثب تفاصيل الخراب الذي طال آلاف الشقق السكنية، ثم يسألني بوجه كسته صدمة واضحة: «مرعب .. كيف استطعتم تدمير كل هذا؟!».
لم يكن الجواب صعباً، إنها الحرب ببساطة، ولم يكن مستغرباً دهشة الصحافي الصيني أمام كل ذاك الدمار، لكن المستغرب كان ذهول صحافي سوري آخر رافقنا. فعلى الرغم من أن تلك الزيارة كانت السادسة له للمكان، إلّا أن رتابة الخراب وفتحات الأنفاق المتصلة في ما بينها بشبكة منظّمة، تشرح صعوبة المعارك التي دارت هنا، وكتل الاسمنت العالقة بعضها ببعض والباقية على حالها منذ أن توقفت الحرب في المكان منذ أكثر من ثلاث سنوات تجعل المعركة تبدو كأنها دارت أمس، وهذا ما يدعو للدهشة والذهول.
ووجدت نفسي أقارن ردة فعلي، أنا السورية التي تزور المكان للمرة الأولى بزميلي الغريب. لقد اختبرت طوال السنوات الخمس الماضية مشاعر مختلفة بسبب الحرب، لكنها المرة الأولى التي تعتريني مشاعر الحياء أمام ذلك المنظر الرهيب. نعم إنها الحرب، لكن ما الذي كان يستحقّ كل هذا؟
تصل نسبة الدمار إلى ما يقارب 30 إلى 50 في المئة من أحياء حمص القديمة، وبالرغم من أن الكثير من العائلات عادت إلى منازلها في أحياء معينة مثل الحميدية، لكن أحياء أخرى، كجورة الشيّاح والخالدية والقرابيص، لا تزال على حالها تقريباً باستثناء عمليات جرف الردم من الشوارع، فنسبة الدمار فيها تقارب 70 في المئة بالمجمل، ما يجعل عملية ترميمها شبه مستحيلة، لتصبح هذه المناطق أشبه بمتحفٍ حربي كبير يقصده كل من يزور سوريا بهدف مشاهدة ما تعنيه الحرب السورية بأبشع تجلياتها. بل أكثر من ذلك، لقد تحوّل المعقل الأول للعمليات المسلحة والأكثر دماراً بين المدن السورية إلى أيقونة للحرب وملاذاً لكاميرات المخرجين والصحافيين والزوار الفضوليين.
وفي حضرة السكون المهيب للدمار، تقطع رياح ساخنة تدخل من بين فوهات الجدران صمت المكان، وتصدر أصواتاً تشبه العويل أو البكاء، إلا أن فتية يشقون طريقهم بواسطة دراجاتهم الهوائية بين الدمار باتجاه واحدة من الحارات دفعنا الفضول للحاق بهم، وإذ بهم يقفون على باب محل تجمعت أمامه عدد من الدراجات القديمة.
ينكبّ رجل خمسينيّ فوق دراجة هوائية يحاول إصلاحها. يرفع أبو محمود رأسه الذي كساه الشيب بين الفينة والأخرى ليقصّ حكايته الطويلة بحسرة لم يخفها وجهه المتغضن، ويبدأ من البيت القديم الذي كان يقطنه: «هنا كانت البداية، قضيت شبابي في هذا المنزل مع أسرتي التي انتقلت برفقتها إلى حي الوعر قبل الأزمة بسنوات بعدما ازدهرت تجارتي. عشنا هناك إلى أن اشتدت الحرب وبدأت الاشتباكات تدخل إلى الحي، حينها قررت العودة إلى هنا بعد انتهاء المعارك».
الفترة التي تحدث عنها الرجل تعود إلى الشهر السادس من العام 2014، بعد انتهاء عملية إجلاء الدفعة الأخيرة من المسلحين عن المدينة بموجب اتفاق بين الحكومة السورية والأطراف الأخرى، رعته الأمم المتحدة آنذاك.
يتابع الرجل حديثه أثناء انشغاله بوضع رقعةٍ على العجلة المتآكلة: «لم يكن هناك مكان آخر للعودة بعدما خسرت كل شيء، كل ما أفنيت عمري من أجله. حتى أبنائي هاجروا، وزوجتي رفضت العودة، فتزوجت وعدت إلى الحي كما ترين، ولم يكن ليخطر في بالي يوماً أن أضطر إلى عملٍ كهذا، لكن الحال أصعب مما يحتمله الإنسان وأنا راضٍ بها على كل حال».
لم يكن قرار عودة بعض العائلات إلى العيش وسط كل هذا الدمار بسبب الارتباط الكبير بالمكان بقدر ما كان خياراً قسرياً فرضه الوضع الاقتصادي السيئ إلى درجة التكيف معه تحت أي ظرف. يكفي أن يكون هناك سقف يؤويهم بدل تحمل عناء الإيجارات المرتفعة أو العيش في تجمعات المهجرين مهما بلغت درجة العناية بهم.
تابعنا جولتنا في الأحياء المجاورة. لا مكان للحياة هنا، ولا آثار للأقدام إلا تلك التي خطاها الجنود والإعلاميون والفضوليون الذين يرغبون برؤية الدمار عن قرب، والتقاط الصور والفيديوهات، لكن أي ذاكرة رقمية مهما اتسعت مساحتها لن تستطيع التقاط كل تلك الحكايا والذكريات: هنا ألبوم صور وماكينة خياطة، وهناك ربطة شعر حزينة، وحيث انتهينا كان قد توقف التاريخ عند العام 2012، عند نسخة من كتاب التاريخ لطلاب الصف التاسع الإعدادي، من المفترض أن يكون صاحبها قد كتب لنفسه تاريخاً جديداً وصار عمره ثمانية عشر عاماً على الأقل، وهو العمر الذي يفترض أن يلتحق فيه بالجامعة أو يتحضر لتأدية خدمة العلم الإلزامية.
أتفحّص الكتاب فيباغتني زميلي الصيني بسؤال صغير ولكن كبير بحجم الخيبة: «ما هذا؟».
أرفع نظري وأجول به في المكان، أقارن بينه وبين العنوان وأجيبه «هذا كتاب التاريخ، لكن ما تراه حولك هو التاريخ الحقيقي!».
هنا، في عمق حمص القديمة وأنت تمشي متعثراً بالحجارة الزرقاء والمنازل المتهالكة، تخاف أن تطأ قدماك بقايا كتب الأطفال وصورهم المبعثرة بين الدمار، تبحث عن باب تستأذن أشباح أصحابه للدخول والتجول في أكوام ذكرياتهم العتيقة.
هنا، ستستقبلك ياسمينة تشبثت بالحديد وتعرّشت فوق كل الخراب بانتظار عودة من يسقيها.