مع اختلاف أساليبها ظاهرة التسول.. تزايد واضح في الأعداد والانتشار.. وإخفاق في مواجهة أسبابها!

مع اختلاف أساليبها ظاهرة التسول.. تزايد واضح في الأعداد والانتشار.. وإخفاق في مواجهة أسبابها!

أخبار سورية

الجمعة، ١٧ يونيو ٢٠١٦

هل سمعتم باستعطاف التسول التالي: «عطيني خمسة.. الله يخليك.. عطيني خمسة»، خمس ليرات فقط لا شيء يغيّرها، لا ارتفاع المعيشة، ولا الظروف الاقتصادية الصعبة، ولا انخفاض قيمة العملة، ولا مستويات التضخم، ولا كل سنوات الحرب العجاف استطاعت أن تنال من قيمة تلك الليرات، ومن نداء مطلقها، وكأن الزمن قد توقف في ذاكرة ذلك المسن البسيط الذي رأيناه منذ عدة سنوات خلت، سنوات لم تكن الحرب فيها بعد قد بدأت، وكأنه يريد المحافظة على ذكرى أيام جميلة يشتاق عودتها كل السوريين، ذلك المسن البسيط والمتسول الذي فقد نصف عقله يعرفه جيداً معظم من يعبر دوار مستشفى المواساة من سائقي أجرة، وسيارات مكروباص، وعابرين، فيمنون عليه، ويحسنون بما يريد ويطلب، ليهديهم بما تبقى من نصف عقله الآخر صلوات، ودعوات، وابتسامة صادقة من القلب تساوي أقداراً مضاعفة من حجم عطائهم، والليرات الخمس التي اعتاد أن يجمعها.
أرقام ضاعفتها الحرب
ويبدو أن الصورة السابقة ليست إلا حالة خاصة في ندائها، لكن متشابهة في الواقع الذي تمثّله، والذي يتجلى بعشرات المتسولين والمتعيّشين على الإحسان ممن يفترشون الأرصفة والشوارع في أحياء مدينة دمشق وحاراتها، إذ تضاعفت أرقام هؤلاء في الأزمة، وازداد عددهم مع مواكبة معظمهم للتغيرات الاقتصادية الحاصلة، فحتى ماسح الأحذية لم يعد يقبل بأقل من خمسين ليرة كأجرة لعمله، ويبدو أن تلك الأرقام التي ضاعفتها الأزمة تركت أيضاً تجمعات من الأطفال المتشردين تنوعت أساليبهم وطرقهم في جمع المال، ففي أي مكان عام يمكن أن تسير فيه، هناك دائماً من يلاحقك بنظراته وتوسلاته، ويغدق عليك سيلاً من الأدعية في سبيل أن يناله من عطفك القليل، وفي شهر رمضان هذا العام يبدو أن الموسم في ذروته. إحصائيات حكومية  عديدة أظهرت أن عدد حالات التسول المضبوطة تضاعفت في الأزمة الحالية لنحو ٥٠٠٠ حالة منهم ٢٠٠٠ امرأة تراوحت أعمارهن من ٣٠ حتى ٦٠ عاماً بينما بلغ عدد الأطفال ٢٥٠٠ طفل وحوالي ٥٠٠ رجل متسول، في حين أن تلك الأرقام لم تكن قبل ذلك تتجاوز الـ 2000 حالة في نهاية العام 2010، ورغم النداءات التي تطلقها الجهات المعنية بين فترة وأخرى بضرورة التشدد في العقوبات الرادعة لمكافحة هذه الحالات بشكل كامل، تستمر ظاهرة التسول بالتفاقم بتداعيات الظروف الاقتصادية والاجتماعية والعائلية.

أساليب وحجج
لا يجد أحد الآباء الذين تحدثنا معهم حرجاً في ترك أولاده أمام أحد الجوامع، فارتفاع الأسعار والبطالة والضائقة الاقتصادية مبررات يمكن أن تعفي الأب المقصر من إشارات الاتهام والمساءلة، والتذرع بالحصول على لقمة العيش يمكن أن يخدر لديه الإحساس بالمسؤولية تجاه أولاده، حتى رغم وجود جمعيات كثيرة تقدم المساعدة، أما الأطفال فيصعب معهم أن تخرج بإجابات شافية، إذ يخشى أي طفل متسول الحديث والبوح، وكل ما يعرفه أن من تركه في شارع ما أخبره بضرورة التذلل والتوسل أمام الناس، مهما كانت الطريقة أو الوسيلة، ومن الملفت استخدام بعض المتسولين لشهادات طبية قديمة أو مزورة عن مرضى بحاجة لعمليات جراحية عاجلة لاستدرار العطف، أو بيع أشياء بسيطة حتى لا يقال عنهم إنهم متسولون.

ظاهرة قديمة
يعتبر الدكتور مهند إبراهيم، أخصائي علم النفس، ظاهرة التسول من الظواهر الاجتماعية المنتشرة في كل المجتمعات العالمية بلا استثناء، رغم اختلافها في طبيعتها وأنماطها وآليات تشكلها واستمرارها مع وجود فوارق في انتشارها من مجتمع لآخر، وفقاً للعادات والتقاليد السائدة وبناء على المستوى الاقتصادي والاجتماعي وتركيبة المجتمع. وفي المجتمع السوري ازدادت هذه الظاهرة ضمن الظروف الحالية ووجدت لها بيئة خصبة لتتكاثر حالاتها، فتعددت وتمايزت أساليبها، مع دخول فئات جديدة إليها معظمهم من الأطفال، واحتوت أشكالاً متعددة ومتنوعة، علنية أحياناً ومستترة في أحيان كثيرة. لذا فقد ظهرت الحاجة إلى دراسة ظاهرة التسول وتحليلها والكشف عن أبعادها المختلفة للوصول إلى رسم صورة أقرب إلى حقيقة هذه الظاهرة.

أسباب نفسية وتربوية
ويؤكد د. إبراهيم أن سبب التشرد والتسول الرئيسي هو الحاجة والعوز، لكن تراجع دور المدارس من جهة والدور التربوي من جهة أخرى، خاصة ضمن الظروف الحالية، أدى إلى انحراف الأطفال واستغلالهم من قبل بعض العصابات والجهات المنظمة التي تستغل طيش الأحداث، وتدفعهم لارتكاب الجرائم وتدربهم على طرق مختلفة للتسول تضر بالمجتمع والوطن وتخدم مصالحهم الأنانية، كما يعزو هذه الظاهرة إلى التفكك الأسري ويقول: انتشار الخلافات في المنزل يؤثر سلباً على الأطفال، فالاهتمام بالأسرة هو مفتاح الحل السحري لإنقاذ المجتمع من هذه الظاهرة، ومن المهم عند الحديث عن العلاج تفعيل دور الأسرة والمؤسسات الإعلامية، ونشر التوعية من خلال وسائل الإعلام بمخاطر هذه الظاهرة، وتعليم الأسرة كيفية التعامل مع مشكلات أبنائهم ومتطلباتهم، كذلك من المهم نشر التعليم الفني والحرفي في المناطق الفقيرة، والتشديد على إلزامية التعليم ومنع التسرب من المدارس، وتضافر جهود جميع المؤسسات الاجتماعية كوزارة التعليم والصحة والشؤون الاجتماعية لزوال هذه الظاهرة، بالتعاون مع وزارة الإعلام، وذلك لخلق مجتمع تسوده الألفة والتسامح والعيش المشترك بجميع فئاته.

محمد محمود-البعث