الزراعات البديلة.. خطوات استباقية للتخفيف من الفاتورة المائية والاقتصادية.. والتجارب الزراعية تعتمدها

الزراعات البديلة.. خطوات استباقية للتخفيف من الفاتورة المائية والاقتصادية.. والتجارب الزراعية تعتمدها

أخبار سورية

الثلاثاء، ٢٤ مايو ٢٠١٦

صيف ساخن يتهيأ العالم لاستقباله في عام 2016 سيكون الأشد حرارة على الإطلاق منذ عام 1880، ولعل خبراً لاهباً كهذا تعلن عنه وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” يقدم أسباباً إضافية للبحث عن إجابة سؤال ملح يرتبط محلياً بالتبدلات المناخية، والاستراتيجيات الزراعية السورية، والقدرة على توفير احتياجاتها المائية، بما فيها المحاصيل السنوية التي صنّفت لزمن طويل بالسيادية، خاصة أن ما تتطلبه بعض تلك المحاصيل من موارد مائية هائلة وضخمة قد يستنزف في مستقبل قادم مياهنا الجوفية، ويضعنا أمام واقع مائي حرج يهدد خططنا الزراعية في حال غياب البدائل، وتبدو التساؤلات مشروعة عن أفكار بحثية، وخطط يتم الإعداد لها لنشر زراعات ومحاصيل بديلة تتناسب مع واقع المياه، أو المناخ شبه الجاف الذي تتحول نحوه بعض المناطق، ليصار إلى التوسع بها في مرحلة تعافي سورية في المستقبل.
تغيرات مهمة
وبالحديث عن الاستراتيجيات الزراعية، وواقع التحولات المناخية، لا يمكن أيضاً إغفال ظروف موضوعية كسنوات متتالية من الحرب أخرجت معها مساحات واسعة من الأراضي عن دائرة البحث العلمي أو الاستصلاح الزراعي، فأصبحت سورية تعاني بشكل كبير خلال حربها مع الإرهاب من عدم تجانس التوزع السكاني، وتركّز السكان في أماكن قليلة، إضافة لعدم التزام بعض الفلاحين في المناطق الساخنة بالخطط الزراعية، ما عرّض الموارد المائية المتاحة لضغوطات كبيرة، كمية ونوعية، وازدادت هذه الضغوطات بفعل الأنشطة البشرية التي أدت إلى الكثير من التغيّرات في استعمالات الأراضي والمياه، وبالتالي زاد الطلب على المياه بحدود فاقت حجم الموارد المتاحة، ما أدى إلى ظهور نقص في الإمدادات المائية، فهل من المجدي أن تبقى خططنا الزراعية على حالها، أم من المهم فعلاً البحث عن بدائل موضوعية، والبحث عن محاصيل ذات جدوى اقتصادية، وكلف أقل من المخزون المائي المهدد بأخطار عديدة؟!.

تكاليف مرتفعة
وكان مثيراً للاهتمام الشرح الذي قدمه الدكتور فايز المقداد، مدير إدارة الدراسات الاقتصادية في الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية، عن الكلفة المائية الهائلة التي يتطلبها إنتاج بعض المحاصيل الزراعية وفق ما يعرف بمفهوم المياه الافتراضية الذي أصبح شائعاً اليوم، ويكتسب مزيداً من الأهمية في دول العالم، حيث يقوم على حساب الكميات اللازمة من المياه للوصول إلى منتج نهائي ما، وفي هذا السياق يقول الدكتور فايز: إن إنتاج كيلوغرام واحد من القطن الخام على سبيل المثال يتطلب 1000 لتر من المياه، أما تكلفة إنتاج الرز فتصل إلى 3400 لتر، لذلك يجب أن نعي مسألة في غاية الأهمية هي أننا حين نقوم بتصدير جزء كبير من المنتجات الزراعية بشكلها الخام، ودون أن نقوم بأية عمليات تصنيعية تسهم بزيادة القيمة المضافة، فإننا بذلك نقوم بتصدير المياه نفسها بسعر رخيص مع المواد الزراعية الخام المصدرة، وهذا يتعارض مع مفهوم التنمية المستدامة التي تلبي حاجات العصر، دون المساس بحقوق الأجيال المقبلة، خاصة فيما يتصل بموضوع المياه، ما يدعو لضرورة تبني مبادئ وسياسات الإدارة السليمة للمياه.

عجز مائي
يقدر المعدل الحسابي لنصيب الفرد في سورية من المياه في الأعوام التي سبقت الأزمة بحوالي 350-400م3/ السنة، وهو دون خط الفقر المائي العالمي المقدر بـ (1000م3/السنة)، وبحسب د. المقداد فإن هذا الرقم في طريقه إلى التناقص مع تزايد انعكاسات الأزمة على قطاع المياه، والممارسات غير الكفؤة في إدارتها، كما يشير إلى أن الزراعة هي المستهلك الأكبر للمياه في سورية، حيث تبلغ مساحة الأراضي الزراعية المروية نحو (1,35) مليون هكتار، وتستخدم طرائق الري التقليدية بالغمر، حيث تقدم مقننات مائية للهكتار تصل إلى (4000)، إلى (12000)م3/هكتار، كما أن شبكات الري الحكومية المكشوفة، وعدم صيانتها وتغطيتها، تؤدي، عن طريق الرشح والتبخر، إلى ضياع ما يُقدر بنحو 10% إلى 37%، ومن هنا لابد من البحث عن المحاصيل الأقل استهلاكاً للمياه وإحداث تغيير لبعض المحاصيل كالقطن وغيره من المحاصيل المستهلكة للمياه، إضافةً إلى ضرورة اتباع أساليب الري الحديث التي توفر ما لا يقل عن 40% من الطرق الأخرى، وهذا هو المجال الأهم للتدخل نظراً لكون الزراعة تستهلك 87% من المياه، ويؤكد د. مقداد أن العجز المائي وصل في عام 2005 بسورية إلى (3125) مليون م3 بسبب تزايد مساحة الأراضي الزراعية المروية، إضافة لعدم تطبيق تقنيات الري الحديثة وسوء استخدام المياه لري المحاصيل، فازداد الاعتماد على المياه الجوفية المتجددة ما أدى إلى انخفاض مستويات المياه الجوفية في مناطق عديدة، ما ينذر بكارثة مائية أصبحت ملامحها تلوح في الأفق خاصةً مع ما نشهده اليوم من تغيرات مناخية كبيرة تجعل من الجفاف سيد المشهد، حيث يتوقع أن يصل العجز المائي في سورية إلى 6 مليارات متر مكعب في العام 2030.

زراعات بديلة
وبالعودة إلى الأصناف الزراعية التي يمكن  اعتمادها والعمل على نشرها في مناطق مختلفة على امتداد الجغرافيا السورية، يؤكد الدكتور منهل الزعبي، مدير إدارة بحوث الموارد الطبيعية في الهيئة الزراعية، أن التوجه لنشر زراعات بديلة في سورية بدأ منذ أكثر من عشر سنوات عام 2005 ضمن مشروع إقليمي بالتعاون مع المركز الدولي للزراعات الملحية ICBA لبحث التكيف مع التغيرات المناخية والتعامل مع واقعنا الحالي ووضع حلول لمشاكل التغير المناخي، تتيح استفادتنا من المياه غير التقليدية عبر إدخال نباتات متحملة للملوحة ومتحملة للجفاف ونقص المياه والإجهاد المائي، وفعلاً بدأ هذا المشروع، وأدخلت زراعات عديدة في محافظات مختلفة، حيث كانت البداية من المنطقة الشرقية وزُرعت أصناف تتطلب كميات قليلة من المياه، وتتحمّل ملوحة التربة مثل: “الشعير وأصناف من الذرة البيضاء والشوندر العلفي والسيسبان ونبات الدخن اللؤلؤي والتريتيكالي والكينوا”، واستخدمت المياه غير التقليدية، وهي مياه صرف زراعي مياه مالحة ومياه صرف صحي معالجة، واستمرت أعمال هذا المشروع البحثي التنموي حتى نهاية العام 2015، حيث تم إعداد تقارير بنسب الإنجاز، والتقدم بدءاً من المنطقة الشمالية الشرقية ثم التوجه للسلمية وسهل الغاب في محافظة حماة وسهل عكار في محافظة طرطوس، وفي حلب كذلك كان هناك عمل لنشر هذه الزراعات، وأضاف د.الزعبي: حديثاً تم التوسع بتقييم أحد أهم المحاصيل ذات القيمة النقدية العالية والتحمّل للظروف البيئية القاسية، وهو محصول “الكينوا” حي تم إدخاله إلى سهل عكار – محافظة طرطوس في موسم 2015.

شروط للنجاح
وكأي تجربة جديدة فهناك عوامل مختلفة تساهم في النجاح والاستمرارية، يؤكد د. الزعبي أن الجدوى الاقتصادية من زراعة تلك المحاصيل كانت بنتيجة الاختبار على أكثر من صنف وفي أكثر من منطقة مقبولة ومرضية، وشهدت إقبالاً من الفلاحين، وهناك اليوم تجارب بحثية وعملية مستمرة لضمان الاستمرارية والنجاح والتبني من قبل الفلاحين لهذه المحاصيل التي تتحمل ملوحة التربة وتخفف من انتشارها، وهنا يؤكد د. الزعبي على مسألة مهمة، إذ يقول.. صحيح أن القطن والقمح والشوندر السكري محاصيل متحملة نسبياً للملوحة وتزرع على مساحات واسعة في المناطق الشرقية، إلا أن غلة تلك المحاصيل تنقص بنسب مخيفة كلما ازدادت نسب العتبة الملحية الموجودة في التربة، وبالتالي سترتفع كلف الإنتاج ويتدنى المحصول، وهنا يجب التأكيد على الدور الكبير للإرشاد الزراعي للقيام بعمليات التوعية والتواصل مع الفلاحين وتوجيههم نحو الزراعات الجديدة في المستقبل، فسورية تصنف اليوم على أنها بلد جاف يتصف بندرة موارده المائية، وإدراك الفلاحين لمسألة المستقبل المائي والأخطار التي تتهدد المياه الجوفية من العوامل المسرعة في نجاح نشر هذه الزراعات.

تحول مناخي
بدوره يتطرق الدكتور حسام حاج حسين، وهو باحث في الهيئة ومهتم بالبحوث الزراعية، للحديث عن التحولات المناخية وأثرها على مستقبل الزراعة في سورية، فيقول: تعتبر سورية دولة متأثرة بالتغيرات المناخية التي تحصل في كل عام وتتسبب بارتفاع معدلات الحرارة وذلك بحسب اتفاقية كيوتو للتغير المناخي التي قسمت الدول إلى مؤثرة ومتأثرة بالمناخ. وعليه فسورية من الدول التي تستحق الحصول على تعويضات مستمرة من صندوق ضريبة الكربون الذي تدفعه الدول الصناعية والملوثة للبيئة والمتسببة بالتغيرات المناخية التي لمسناها في واقع مائي يشهد انخفاضاً ونقصاً في كميات المياه المخزنة في السدود والمياه الجوفية، وكذلك في انخفاض نوعية المياه وجودتها وارتفاع نسب الملوحة فيها، وهو ما يوجب بالضرورة الانتباه لنوعية المحاصيل المزروعة وتغير السياسات الزراعية بما يتلاءم مع الواقع المناخي الذي نتحول إليه، ويؤكد د. حسين أن هناك سيناريوهات مختلفة للتحولات المناخية المقبلة التي ستشهدها المنطقة وتؤكد بمعظمها استمرار انخفاضات مستويات المياه في منطقتنا.

نقص الدراسات خسارة
وبحسب د. حسين فإن سورية خسرت كمية هائلة من الأموال بسبب نقص الدراسات وعدم تقديم أرقام لصندوق الدعم المناخي الذي يشترط وجود أرقام وأبحاث تبين الضرر الحاصل نتيجة التغيرات المناخية أو التأثر بانبعاثات الكربون ويشترط وجود أفكار ومشاريع بحثية ليقدم الدعم المطلوب لها، ويضيف رغم أن صندوق الدعم أرسل لسورية أكثر من مرة لطلب الأرقام والإحصائيات المتعلقة بالضرر من التغير المناخي، إلا أن عوامل موضوعية وعقبات وعراقيل كثيرة حالت دون تنفيذ العديد من الدراسات البحثية، بعكس دول مجاورة أخرى، كلبنان مثلاً التي تقدمت بستة أو سبعة مشاريع وحصلت على دعم مالي للبدء بتنفيذها وأقلمة المحاصيل التي ينتجها، ويضيف في العام  2009 كانت هناك دراسات مبسطة ربطت التغير المناخي بتغير القمح، تم تقديمها للجهات الدولية، حيث كان هناك نقص ما قيمته 300 مليون دولار نتيجة التأثر بتغير درجات الحرارة، وتم حساب أثر تغيير المناخ بنضج القمح والنضج القسري للقمح نتيجة ارتفاع دراجات الحرارة في نيسان وأيار، واليوم نحن بحاجة لدراسات مماثلة مرتبطة بالتغير المناخي، منها على سبيل المثال الحوادث المناخية المتطرفة، فمثلاً على الرغم من أن كميات الهطل ثابتة ومعدلات الأمطار ضمن المعدلات، لكن ما يحدث أن المطر بدل أن يهطل في فترات طويلة ومتقطعة، أصبح يهطل في فترة قصيرة مرة أو مرتين وبكميات كبيرة، وهذا يحول دون الاستفادة من الأمطار ويسبب بانجراف التربة، وهو حكماً نتيجة النشاط البشري والاحتباس الحراري الذي تسبب بتواتر فترات الجفاف وجعلها متقاربة جداً.

الأقل كفاءة
من المحزن أن تصنف سورية ضمن قائمة الدول الأقل كفاءة في استخدام المياه، وذلك وفقاً لمقياس عالمي يقيس مساهمة المتر المكعب من الماء في الناتج المحلي للدولة، ولعل هذه الفجوة الملموسة بين الموارد المائية المتاحة في سورية وطرق التعامل معها وإدارتها آنياً واستراتيجياً، مسألة تتطلب جهداً علمياً تعاونياً في إدارة الموارد المائية، ووعياً كبيراً من كل المستفيدين من المصادر المائية، فالمفروض تطبيق إدارة مائية مستدامة وحازمة قبل أن يصبح حجم العجز المائي كبيراً لحد يصعب بعده السيطرة عليه، في وقت تنحو فيه الدول للحفاظ على مصادرها المائية، وتبدو ملامح الحروب المقبلة باعتبارها حروب مياه لا غير.

محمد محمود