«داعش» و«النصرة» يدمّران بنية العشائر

«داعش» و«النصرة» يدمّران بنية العشائر

أخبار سورية

الخميس، ٢٨ مايو ٢٠١٥

تضاربت الرؤى حول العشائر السورية ودورها في الحرب الدموية المستمرة منذ العام 2011. ففيما يتّهم البعض هذه العشائر بأنها لعبت دوراً سلبياً من خلال تشكيلها حاضنة شعبية للتنظيمات التكفيرية سمحت لها بالبقاء والتوسع، فإن العديد من الوقائع تشير من جهة أخرى، إلى أن بعض العشائر العريقة تتعرض لسياسة تدمير ممنهجة لبنيتها التاريخية، وخاصةً تلك العشائر التي أُدخلت في لعبة التنافس بين «جبهة النصرة» وتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ «داعش» أبرز تنظيمين تكفيريين.
ومن السهل في سياق تفسير بقاء وانتشار بعض التنظيمات التكفيرية القول إن سبب ذلك يعود إلى الاحتضان العشائري لهذه التنظيمات، مع إشارة متكررة إلى أن تمدد التنظيمات التكفيرية في مناطق العشائر خصوصاً، يدل على أن العشائر شكلت الحاضنة الشعبية التي أتاحت لها التمدد والتوسع. وهذا التفسير صحيح نسبياً لأن بعض العشائر لعبت بالفعل دوراً في احتضان بعض التنظيمات وأمّنت لها المدد البشري والمالي والتسليحي.
لكن الاكتفاء بظاهر الأمور من دون التعمق في بواطنها يجعل من هذا التفسير مجرد محاولة لتعليق آثام الجماعات التكفيرية على شمّاعة العشائر، مع أن الهدف ينبغي أن يكون تقديم فهم قريب إلى الواقع قدر الإمكان، حول حقيقة العلاقة بين العشائر وهذه الجماعات.
وفي هذا السياق، قد يكون من المقبول تضخيم دور العشائر في دعم بعض الجماعات المسلحة ذات الأهداف المحلية (أي الخاصة ببلد معين مثل «الجيش الحر» في سوريا)، لأنه في هذه الحالة يتوافر انسجام معين بين طبيعة التكوين العشائري المغلق وهذه الجماعات المحلية. كما أن العشائر في هذه الحالة تدرك أنها ستنال حصة معقولة من الكعكة التي يحوزها «الجيش الحر»، خاصة في المناطق التي تشكل فيها العشائر نسبة كبيرة من عدد السكان.
لكن الأمر بالنسبة للتنظيمات التكفيرية مختلف اختلافاً جذرياً. وأهم أسباب هذا الاختلاف هو التباين بين طبيعة هذه التنظيمات وطبيعة البنية العشائرية، فالتنظيمات التكفيرية («جبهة النصرة» أو «داعش» مثالاً) لا تقتصر أهدافها على الأهداف المحلية التي يقنع بها «الجيش الحر» على سبيل المثال، بل لديها أهداف عالمية، تتمثل في إقامة «الدولة الإسلامية وتطبيق الشرع الإلهي» والاستمرار في «الجهاد» إلى يوم القيامة. ولتحقيق هذه الأهداف فتحت أبوابها مشرّعة لينتسب إليها «الجهاديون» من مختلف جنسيات العالم. وهذا الانفتاح العالمي، لجهة الأهداف أو الانتساب، يشكل أحد أهم التناقضات مع البنية العشائرية المغلقة، التي تمثل فيها علاقة النسب بالدم الركن الوحيد.
وفي الواقع، فقد دفعت العشائر سريعاً ثمن هذا التناقض، ووجدت نفسها في مهب الريح بعدما فقدت البوصلة وأضاعت الطريق، ولم يكن مستغرباً أن تكون التنظيمات التكفيرية التي دعمتها هي أول من فرض عليها دفع الضريبة الدموية، بعدما تعذر التوفيق بين التناقضات.
«النصرة»
وعشائر المنطقة الشرقية
وتنطوي تجربة «جبهة النصرة» مع المنطقة الشرقية وعشائرها على العديد من الدلالات المهمة. فبرغم أن «النصرة» استحوذت ظاهرياً على دعم أبرز العشائر وتأييدها، وتم توقيع عهود ومواثيق بين الطرفين لإدارة المدينة، إلا أن ذلك لم يسعفها في الحفاظ على بقائها في دير الزور، واضطرت بعد هزيمتها على يد «داعش» لأن تهرب باتجاه الشمال (إدلب) والجنوب (درعا).
ولا شك بأن اقتلاع «النصرة» من دير الزور على هذا النحو، بالرغم من أن زعيمها أبو محمد الجولاني ينتمي إلى مدينة الشحيل، يشير إلى أن الحاضنة الشعبية هي مجرد وهم، أو على الأقل ليس لها دور حاسم في تحديد مسار الأحداث. والدلالة الثانية أن أي تنظيم، مهما بلغت حنكته ودهاؤه، ليس بمقدوره استقطاب دعم كل العشائر بسبب الخلافات التاريخية بين بعضها البعض، وفي هذا السياق فإن «النصرة»، التي حرصت على كسب التأييد العشائري، اضطرت في مرحلة ما إلى إصدار بيان تهدر فيه دم عشيرة الجبور، وذلك بالإضافة إلى فشلها في إدارة ملف العشائر بعد ذلك، حيث تركزت السلطة والمنافع بين يدي قلّة من أهالي عشائر الشحيل (باعتبار أن العشائر هيمنت على «النصرة») بينما كانت باقي العشائر في المدن الأخرى في دير الزور تعجز عن تأمين قوت حياتها، وهو ما دفع بعض العشائر إلى استعداء الجبهة والوقوف ضدها، ولو كان السبيل إلى ذلك التحالف مع «داعش» كما فعلت عشيرة البكّير مثلاً.
وهكذا انتهت تجربة «جبهة النصرة» في المنطقة الشرقية بفشل ذريع، أدّى فيما أدّى إليه إلى زيادة الخلافات بين العشائر، وإلى دفع بعضها إلى أحضان «داعش»، وإلى مراجعة بعضها الآخر لمواقفه وسعيه إلى فتح خطوط اتصال مع الحكومة السورية.
لكن العبرة الأهم في هذه التجربة هي إعادة النظر في مفهوم الحاضنة الشعبية ودورها، لأن «جبهة النصرة» في مدينة الشحيل كانت هي نفسها مدينة الشحيل من دون أي فرق، ولم تكن هناك ضمن حاضنة شعبية وحسب بل كانت عشائر الشحيل هي نفسها «جبهة النصرة»، ومع ذلك جرى اقتلاع «النصرة» من جذورها واضطرت إلى هجرة جماعية غير مسبوقة. وكان لافتاً أن زعيم «جبهة النصرة» أبو محمد الجولاني، وهو من مواليد الشحيل، لم يجد حرجاً في الهروب وترك أبناء مدينته وعشيرته يتعرضون للعقاب المُذل الذي فرضه «داعش» عليهم.
«داعش» والعشائر
أما تجربة «الدولة الإسلامية» مع العشائر فقد كانت أكثر ذكاءً وأكثر قسوة، فهو سعى إلى استقطاب العشائر، والحصول على بيعات من شيوخها، من دون أن يسمح بتكوين لوبي عشائري بمقدوره الاستحواذ على السلطة والمنافع.
وحرص التنظيم وما زال على الإعلان عن بيعات يحصل عليها من بعض شيوخ العشائر، ففي الرقة أعلن عن حصوله على بيعات من 14 عشيرة، وفي ريف حلب نشر تقارير موسعة عن بيعة العشائر له، كذلك الأمر في ريف دمشق وحماه وغيرها من المناطق، ولكن كان واضحاً أن الهدف من ذلك هو إعلامي، لأن التنظيم يدرك قبل غيره أن أغلب العشائر التي بايعته سبق لها أن بايعت غيره من التنظيمات عندما كانت تسيطر على المناطق نفسها، وبالتالي فإن البيعة لم تعد تعبّر عن ولاء حقيقي بقدر ما تعبّر عن وسيلة للتعايش بين التنظيم والعشائر في مناطق سيطرته.
وقد تشكل تجربة كل من عشيرتي الشعيطات والبكارة نموذجاً لطبيعة العلاقة بين «داعش» والعشائر، سواء منها التي دعمته أو تلك التي وقفت ضده. وتشير هذه التجربة إلى أن أحد أهداف «داعش» هو تقويض سلطان العشائر، وهدم بنيتها من الداخل من دون أن يكون بالإمكان حالياً، نظراً لعدم توافر معطيات كافية، تفسير سبب هذا الاستهداف لبنية العشائر، هل هو وعي التنظيم للتناقض بين تركيبته العالمية والبنية العشائرية الضيقة المغلقة، أم هو خوف من ازدياد نفوذ العشائر وشيوخها، بما قد يسبب تنافساً داخلياً في التنظيم، ليس بين كتلة «المقاتلين الأجانب» و «المقاتلين المحليين» بل بين «المقاتلين المحليين» بحسب انتماءاتهم العشائرية، وهو ما قد يهدد مستقبل التنظيم ومصير قيادته الحالية.
فقد وقفت عشيرة الشعيطات ضد دخول «داعش» إلى دير الزور وشكلت حلفاً عسكرياً لمحاربته، لذلك عندما انتصر التنظيم وتمكن من طرد «جبهة النصرة» وغيرها من الفصائل الأخرى، مثل «جيش الإسلام» و «أحرار الشام» من دير الزور، التفت خاصة إلى عشيرة الشعيطات، وارتكب فيها أكبر مجزرة دموية منذ بدء الأزمة السورية حيث أعدم ما يقارب 800 شخص خلال أيام قليلة، كما عمد إلى تهجير غالبية أبناء العشيرة من مناطقهم، وشردهم في البادية شهوراً عديدة، قبل أن يقبل شيوخ العشيرة توقيع اتفاق استسلام مهين، أرادت قيادة «داعش» من خلاله أن ترسل رسالة دموية إلى أي عشيرة تفكر في التمرد عليها، أن مصيرها سيكون مثل مصير الشعيطات.
أما عشيرة البكارة، وهي من أكبر العشائر، ويتزعمها المعارض السوري نواف البشير، فقد كان لها دور بارز في تسهيل دخول «الدولة الإسلامية» إلى دير الزور. حيث سارع نجل البشير، أسعد البشير، وعدد من أفراد العشيرة إلى مبايعة التنظيم في ريف دير الزور الغربي في أيار العام 2015، ما شكل بوابة عبور له للدخول إلى مدن وبلدات الريف من دون قتال يذكر.
غير أن هذه المبايعة لم تمنح العشيرة أي امتيازات قيادية، بل على العكس، فقد عمد «داعش» بعدما وطّد وجوده في المدينة واطمأن إلى استتباب الأمر له، إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد شيوخ وأفراد العشيرة، من بينها وضع يده على قصر نواف البشير ومصادرة كل محتوياته، بالإضافة إلى اعتقال عدد من أفراد العشيرة، قد يكون من بينهم أحد أبناء البشير، وذلك برغم أنه لم يصدر عن هؤلاء أي تصرف يمكن أن يسيء إلى التنظيم، لذلك لا يمكن تفسير هذه التصرفات إلا في إطار سعي «داعش» إلى هدم أي سلطة من شأنها أن تنافس سلطته في يوم من الأيام.