سورية: الحرب ذَبحت «بيت بيوت»!

سورية: الحرب ذَبحت «بيت بيوت»!

أخبار سورية

السبت، ٢٣ مايو ٢٠١٥

«شوف سكينتي ما أطولها»... «ما تخاف، ما رح أقتلك عن جد»... «ملّيت، تعا ندبح الأرض».
هي عباراتٌ تجتاح حياة أطفال سوريا في زمن الحرب، استبدلت «بيت بيوت» إلى «هيا نذبح»!
«خلصو الطلقات»، «وقف ع الحاجز وطالع هويتك»، «شبيح، معارض، منشق، عسكري، داعشي»، مصطلحاتٌ باتت تُسمع من أطفالٍ يلعبون في الأزقّة أو على المفارق.
يختلف الأمر بين الأماكن الباردة، حيث تكون مجرّد تمثيليّات من دون أدوات، وبين الأماكن السّاخنة، حيث تكون أدوات الّلعب رصاصات فارغة في أحسن الأحوال.
لا شيء يعلو فوق صراخ الأطفال المتحاربين، الّذين ينقسمون في لعبتهم عادة إلى فريقين، يتقدّم كلّ منهما قائدٌ ومساعده.
يروي حمزة عياش لـ «السّفير»، وهو أحد القاطنين في محافظة طالتها الحرب: «أصبح أطفال حيّنا ينقسمون لفريقين: فريقٌ يمثّل الجيش السوريّ وآخر يمثل المسلّحين، ويبدأون معركة قوامها الحواجز والأدوات القتاليّة المبتكرة، فيهاجمون بعضهم ممثّلين إطلاق الرّصاص بأيديهم وأصواتهم، مستخدمين سكاكين وعصيّاً وفوارغ الرّصاص المنتشرة بكثرة على الأرض من حولهم».
ويضيف «ما يحصل هنا إن اصطلحنا على تَسميته ألعاباً، فهو يعكس تشويهاً كبيراً في شخصيّاتهم. هم يتقمّصون شخصيّات الكبار من أهلهم وغيرهم ممّن يخوضون الحرب حولهم».
يامن ابن السّنوات السّبع، الّذي فرّ مع عائلته من حلب، وبرغم ابتعاده عن مدينة الحرب، تعشّقت ذاكرته بتفاصيل دمويّة.
يقول يامن، وهو يَرسم بضع قطراتٍ من الدّم أحدثها صاروخ في سماء لوحته: «هذه طائرة، وهذه قطرات من الدّماء». تظهر على وجنتيه ابتسامة لطيفة. يتابع بحماسة وكأنّه أنجز لوحة ربيعيّة مليئة بالفراشات والألوان: «هذه سكّينٌ أيضاً، وهذا مسدّس».
دفتر يامن أصبح مليئاً بالرّسوم الدّمويّة، حاله كحال معظم الأطفال.
يقول مدير مدرسة في اللّاذقيّة، فضّل عدم ذكر اسمه، لـ «السّفير»: «يعيش الأطفال في سوريا تناقضاً ما بين المنزل والشارع والمدرسة والإعلام والإنترنت، وقد لاحظنا كهيئة إداريّة عدداً من أطفال مدرستنا يعيشون حالةً من الشتات الفكريّ والعاطفيّ يظهر جليّاً أثناء تعاملهم مع زملائهم وأهلهم خصوصاً، والمجتمع من حولهم عموماً، ما ينعكس على نفسيّة الطفل وتصرّفاته ليميل نحو العدوانيّة، وعدم تقبّل الآخر، وتكوين شخصيّة غير متوازنة وغير ناضجة يحبس نفْسهُ داخلها وتُودي به وبالمجتمع من حوله إلى هاوية لا عودة منها.
ويروي مدير المدرسة كمثال «طفل من مدرستنا لم يتجاوز الرابعة عشرة ونعرفه يحب المغامرة. في يوم غادر أهله المنزل، وأثناء بقائه وحيداً، دعا اثنين من أصدقائه، ويبدو أنهم كانوا يمثّلون مشهداً ما، فلفّوا حبلاً كالمشنقة حول رقبته وعندما بدأ يختنق ولم يستطيعا فكّه، هربا خوفاً وتوفّي الطفل».
ويتابع «يُرجِع المحققون بالحادثة الأمر إلى مشاهد القتل والشنق التي يشاهدها أطفالنا على التلفزيون والانترنت، وغياب الرّقابة الكافية من الأهل».
ويروي المدير أيضاً قصة طفل آخر في الثانية عشرة من عمره «كانت لديه حالة متقدّمة من الرّوح العدوانيّة والشّغب تجاه زملائه، وتشتكي والدته دوماً من تصرّفاته إذ يقوم بشنق ألعابه بمشانق من حبال على شرفة منزلهم، فقام فريق الإرشاد النفسيّ في المدرسة بالتعاون مع الأهل بالحديث معه ومحاولة رفع وعيه، حيث تحسّن في الفترة الأخيرة لكن بقي عنده حبّ لفت الانتباه ضمن تصرّفات معيّنة نلاحظها ونراقبها باهتمام».
تُرجع المرشدة الاجتماعيّة سمر تصرّفات الأطفال العنيفة من شنق وذبح، وألعابهم العدوانيّة والحربيّة، عموماً إلى «مشاهدة الأفلام التي تُعرض على شاشات التلفزيون بشأن ممارسات المسلّحين، فداعش مثلاً في مناطق سيطرته يحاول تثبيت نفوذه بعمليّات الذّبح والشنق في الشوارع والسّاحات المكشوفة، وأظنّ هذا ما يحاول الطفل تقليده من خلال شنق ألعابه على الشرفة على مرأى من الناس، وكذلك ألعاب الأطفال هي تقليد لما يلعبونه في ألعاب الفيديو وما يشاهدونه من عنف تُولّده حروب الكبار من حولهم»، تضيف «سمر»: «الأطفال هم أبرز رموز السّلام في العالم، كما أن السّلاح أبرز رموز العنف، وأكّدت عدّة دراسات عالميّة أنّ الطّفل لا يملك أيّة رغبة في حمل السّلاح لخشيته منه وعدم معرفة كيفيّة استخدامه، لكن عند إدراك قيمته وتأثيره وآلية عمله تتولّد الرّغبة وتتلاشى الرّهبة».
كذلك قد يُسهم الأهل في تنمية العنف عند أبنائهم من دون أن يدركوا ذلك. تقول رنا (مهندسة): «ذات يوم وأثناء عودتي إلى المنزل، استوقفني صوت رجل يُؤنّب ابنه: إن لم تأتِ إلى هنا حالاً سأدعُ داعش يَأخذكَ! وعند سؤال الطفل لوالده: مَن داعش؟! يُجيبه والده: هم من يذبحون ويقطعون الرؤوس ويركلونها كالكرة أو يعلّقونها على الأشجار!».
وأمام تنامي وتعويم العنف في سوريا الّتي تغلغلت الحرب في تفاصيلها تَسلّل بأشكاله إلى المناطق الآمنة، فمثلاً شهدت اللّاذقيّة عّدة حوادث عنف بين الأطفال، أبرزها قيام مراهق بذبح أحد زملائه بسكّين أمام باب المدرسة وقت انصرافهم بسبب خلاف كان ليُحلّ قبل الأزمة بمشادة كلاميّة لا أكثر.
وفي وقت لا توجد فيه إحصاءات حول عدد الجرائم السلوكية الناجمة عن تأثير الحرب، بسبب خروج مناطق عديدة من سوريا عن سيطرة الحكومة وانشغال المنظمات المدنية والأهلية في دعم المناطق الساخنة أو رعاية المهجرين، يرى اختصاصيون أن «نسبة العنف المرتبط بالحرب ارتفعت بشكل كبير، فالعنف يولِّد عنفاً بشكل حتمي».
تقول فرح إسماعيل، وهي متطوعة في قطاع الدّعم النّفسيّ للأطفال المهجرين إلى اللّاذقيّة: «نعمل في مجال الدّعم النّفسيّ ضمن خطّة عمل موحّدة في كلّ المحافظات السوريّة مع منظمة الهلال الأحمر السّوريّ. العمل مع الأطفال لتدعيم نفسيّاتهم المتأذيّة خلال سنوات الأزمة الخمس أهمّ ما يمكننا تقديمه لهم، عقولهم لا تزال مرنة ما يساعد على إصلاح الأفكار التي أفسدتها الحرب.
وتضيف «هم لا يحتاجون فقط للطعام والشراب والمأوى بل ليشعروا أيضاً بالأمان بمفهومه الأوسع»، موضحةً أنّ حجم العمل كبيرٌ ويحتاج إلى متابعة مستمرّة، لأنّه إن تمّ إهمال هذا الجانب فالتشوّه سيزداد في المجتمع، والجيل القادم الّذي يحمل على عاتقه حِملَ بناء سوريا، سيكون جيلاً هداماً.